تونس والإصلاح من خلال المسار الحالي

منذ 1 سنة 196

تعيش تونس حالة استقطاب سياسي حاد منذ أن اتخذ الرئيس قيس سعيد في يوليو (تموز) 2021 قراراته الاستثنائية بوقف العمل بالدستور، وتجميد عمل البرلمان ثم حله، وبعدها قام بتشكيل حكومة جديدة أعقبها وضع دستور جديد عرض على الشعب في استفتاء عام في يوليو من العام الماضي، ونال موافقة 94 في المائة من الشعب، ثم أجريت في نهاية العام الماضي انتخابات تشريعية شارك فيها نحو 11 في المائة من التونسيين، وقاطعتها معظم الأحزاب السياسية.
وتعاني تونس من أزمة اقتصادية وحالة استقطاب سياسي بين فريق يرى قرارات الرئيس سعيد مجرد انقلاب على السلطة، ويضم حركة «النهضة» وحلفاءها، بجانب تيارات مدنية أخرى ممثلة في «جبهة الخلاص الوطني»، يقابلهم فريق آخر مثله تيار شعبي عريض دعم قرارات الرئيس قيس سعيد في بدايتها، ثم تراجع جانب منه عن هذا التأييد بعد أن اعترض على سوء الأداء والتخبط، وهناك فريق ثالث رفع شعار الدعم المشروط للرئيس ومثله الاتحاد التونسي للشغل وبعض الأحزاب كحركة «الشعب»، وتراجع مؤخراً عن هذا التأييد دون أن يرفض جوهر توجهات سعيد في تأسيس نظام سياسي بديل للنظام السابق الذي سيطرت عليه حركة «النهضة»، وتمسك بالحفاظ على الحقوق السياسية والاجتماعية للشعب التونسي.
والمؤكد أن هناك تياراً مشتبكاً مع مشروع الرئيس سعيد «بمنطق صفري» بمعنى أنه يرفض كل ما جرى، ويصفه بالانقلاب، ولا يعترف بالدستور الجديد، ويطالب حتى برحيل الرئيس الذي جاء للحكم في انتخابات ديمقراطية حرة حصل فيها على 76 في المائة من أصوات الناخبين، ويعد الفترة السابقة على قيس سعيد «فترة ذهبية» نعمت فيها تونس بالديمقراطية، في حين أن قطاعاً واسعاً من الشعب التونسي لم يرَ ذلك، وعدّها نموذجاً للفشل وسوء الأداء كرست لسياسة توزيع «المغانم» بين الأحزاب، خصوصاً حركة «النهضة».
والحقيقة أن الفارق بين المشروع السابق على قيس سعيد وبين مشروعه الحالي، يكمن في أن الأول مشكلته كانت هيكلية أي في دستوره الذي أنتج نظاماً عاجزاً عن الفعل والإنجاز، حين كان هناك رأسان للسلطة التنفيذية هما: رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وهو أمر من المستحيل أن نجده في أي نظام سياسي آخر، فالنظم البرلمانية تعرف رأساً واحدة للسلطة هي رئيس الوزراء المنتخب من البرلمان، وفي النظم الرئاسية هو رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب، أما أن نجد دستوراً يعطي صلاحيات لرئيس الوزراء تنازع صلاحيات رئيس الجمهورية فلم توجد إلا في دستور تونس السابق.
أما مشروع الرئيس فالمأخذ عليه الوقوع في فخ الشعارات البراقة على حساب القدرة على الإنجاز الحقيقي، أما انتقاله إلى النظام الرئاسي فهو يمثل نقطة إيجابية ومطلوبة لبناء نظام سياسي جديد يوجد فيه رأس واحدة للسلطة التنفيذية هو رئيس الجمهورية، يقابله برلمان يراقب، وسلطة قضائية مستقلة.
صحيح أنَّ الدستور الحالي فيه بعض المواد التي تحتاج لتغيير وغير متعارف عليها في النظم الرئاسية الديمقراطية، لكن سيظل مبدأ التحول نحو النظام الرئاسي صحيح، لأنه يفتح الباب لبناء نظام سياسي يقوم على «ديمقراطية الإنجاز»، وليس «ديمقراطية الثرثرة» كما جرى في فترات سابقة.
ومن هنا يصبح الخيار الأنسب لتونس هو الحفاظ على المسار الحالي وإصلاحه من داخله، وعدم الوقوع في فخ تبني هذا الخطاب الزاعق الذي يختزل توجهات رئيس منتخب بغالبية كاسحة بالانقلاب، ويتجاهل كل الفرص التي يتيحها المسار الحالي للإصلاح وبناء دولة القانون.
إن خيار الإصلاح عبر المسار الحالي والتمسك بشرعية الرئيس المنتخب حتى نهاية مدته الأولى، يعني البحث عن بدائل قادرة على منافسته في انتخابات العام المقبل تنطلق من الدستور الجديد والشرعية الحالية. وقد يكون الاتحاد التونسي للشغل بوصفه المنظمة النقابية الكبرى في البلاد ولديه قاعدة اجتماعية حقيقية هو الأكثر قدرة على تقديم بدائل إصلاحية من داخل المسار الحالي الذي أيده، إما بالضغط على الرئيس قيس سعيد لتصحيح المسار ومراجعته وإما بدعم مرشح جديد في انتخابات الرئاسة القادمة قادر على الفوز.
يقيناً، فرص تونس في بناء دولة قانون وإصلاح عبر المسار الحالي كبيرة ومخاطرها أقل كثيراً من الانتكاسة والعودة لنظام «عشرية ما بعد الثورة»، فالبلد يقوده رئيس فرض قيوداً على المجال العام والسياسي ولكنه لم يغلقه، وما زالت المعارضة تتظاهر ضده بما فيها الاتحاد التونسي للشغل.
صحيح أن تونس تعيش حالياً في ظل نظام تعددي مقيد وليس نظاماً ديمقراطياً، وأن الرئيس لديه صلاحيات أكثر من الموجود في النظم الرئاسية الديمقراطية، ولكن تبقى فرص إصلاح هذا النظام من داخله أكبر كثيراً من فرص التجارب التي قامت على المحاصصة بين أحزاب ضعيفة ومشروع تمكين لتيارات الإسلام السياسي، وانتهت بالفشل.
على تونس أن تتمسك بدستورها الجديد، وتعدل بعض مواده، لا أن تعود للدستور القديم، كما عليها أن تصلح من النظام والمسار الحالي لا أن تهدمه، وهو لن يحدث إلا بخلق بديل سياسي من داخل الشرعية الجديدة وقادر على إصلاح كل مثالبها، وقد تكون انتخابات الرئاسة القادمة فرصة لترجمة هذا المشروع الإصلاحي.