تمرُّد «فاغنر» وخيارات بوتين الصعبة

منذ 1 سنة 181

ميكافيلي في كتابه «فن الحرب» قدّم نصيحة لمن يشنّ حرباً: أولاً، عليه أن يقود جنوداً شجعاناً قلوبهم لا تعرف الخوف، وواثقين من النصر. ثانياً، لا يعتمد على ميليشيات لتثبت دعائم حكمه؛ لأنها قد تنقلب عليه مستقبلاً. غابت هاتان النصيحتان عن الرئيس بوتين الذي تراجعت قواته أمام صمود الأوكرانيين، والذي تعرّض مؤخراً لهزة سياسية كبيرة بعدما تحركت ميليشيات «فاغنر» صوب العاصمة مهدّدة نظامه. الأذى الذي تعرّض له بوتين كان كبيراً على مستويين: داخلي وخارجي، وكلاهما التقيا معاً ليضاعفا متاعبه، وليُجبِرا القوى الخارجية المؤيدة على إعادة النظر في سياساتها، ومنها دول عربية، وليطرحا ماذا عليه أن يفعل؟

على المستوى الداخلي، جهد بوتين بإبراز نفسه كرجل قوي ممسك بزمام الأمور، واستراتيجي قادر على مناورة الخصوم، والأكثر المصمم على إعادة روسيا إلى خريطة الدول الفاعلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي وصف زواله «بأكبر كارثة استراتيجية». هذه الصورة عن نفسه يؤكدها تعليقه صورتين فوق مكتبه، إحداهما للقيصر الروسي بطرس الأكبر والأخرى للزعيم جوزيف ستالين، وكلاهما يحمل مدلولاً تاريخياً لجعلهما روسيا دولة عظمى. وقد تمكن بوتين من إقناع المواطنين الروس منذ مجيئه للسلطة عام 2000 بأنه المؤهل لإعادة الأمن، والاقتصاد، واسترجاع عظمة روسيا. خلال مسيرة البناء تحوّل بوتين تدريجياً من ديمقراطي إلى قيصر، وتحول معه الشعب من الإيمان بالديمقراطية إلى الدولة القوية ولو على حساب خسارة بعض حرياتهم الديمقراطية. المفارقة أنه رغم هذا الجهد الكبير خسر بوتين كل رصيده في لحظة تاريخية، وإن لم يخسره كله فعلى الأقل اهتزت صورته، ولم يعد يمكنه الاعتماد على رصيده، بل عليه أن يرمم إن استطاع، وفي وقت حرج يحيط به الأعداء والمستنفعون، إحاطة السوار بالمعصم.

على المستوى الخارجي تحول بوتين من أيقونة المناهض للهيمنة الأميركية ثقافياً وعسكرياً، وبنهج قومي يتماشى مع قوميات أخرى في دول الجنوب وفي عواصم أوروبية، قائداً لثورة ضد الأحادية القطبية الأميركية؛ فتدخَّل في سوريا لإنقاذ نظام الأسد من ثورة شعبية مطالبة بإصلاحات، وتدخَّل في ليبيا ليصبح لاعباً مهماً، وتمدد في أفريقيا ليصبح منافساً قوياً؛ وزاد من ترسانة أسلحته، ورأى الناس كيف تمكنت هذه الأسلحة من حصد الناس والمقاتلين في سوريا، وشاهدوا ميليشيا «فاغنر» المؤيدة له تحمي أنظمة وتسقط أخرى. هذا بالذات دفع الرئيس الصيني الذي هو الآخر يريد تعديلاً للنظام العالمي يتماشى مع مصالحه، إلى أن يعزز تعاونه مع بوتين توّج في زيارة أخيرة بإعلان أن تحالفهما لا حدود له إلا السماء. لكن بعد اندحار قوات بوتين في أوكرانيا، وبعد ثورة الميليشيا ضده، وبعد انكشاف ضعف منظومة أسلحته مقابل أسلحة حلف «الناتو» المتطورة، لم يعد بوتين الرمز القادر على منافسة أميركا، بل انتقل هذا الرمز إلى الرئيس الصيني تشي جينبينغ الذي لم ينحاز، كما كان متوقعاً، للرئيس بوتين، بل تركه يصارع حلف «الناتو»، رافضاً مساعدته عسكرياً لما يترتب على ذلك من أخطار اقتصادية وربما عسكرية ضد بلاده. ولكي ندرك مدى فقدان الثقة نرى إيران الدولة المزودة لروسيا بأسلحة وطائرات بلا طيار تنفي يومياً انحيازها العسكري لروسيا، وتصرّ على أنها تقف على الحياد؛ ما يعني أن بوتين لم يعد بالفعل لديه أصدقاء مستعدون للمجازفة من أجله، وأنه ليس الشخص القادر على تعديل النظام العالمي. على المستوى العربي تمكن بوتين بعد تدخله العسكري في سوريا، ومنع انهيار نظام الأسد، ثم بناء تحالفات مع تركيا وإيران وكذلك التفاهم مع إسرائيل، من إثبات وجوده في معادلة الشرق الأوسط؛ هذا الوجود دفع دولاً عربية إلى ترتيب علاقة معه من باب الواقعية السياسية، وهذه العلاقة مثلت تطوراً نوعياً؛ لأنها جاءت على حساب العلاقة التاريخية مع الولايات المتحدة؛ فالدول العربية استشعاراً منها للتغيرات الدولية نوَّعت علاقاتها لتشمل أولاً روسيا ثم الصين، وبهذا تغير وجه المنطقة، بمعنى أن أميركا لم تعد اللاعب الأوحد فيها والمؤثر. لكن التطورات الأخيرة في روسيا، وما رافقها، أرخت بثقلها على العلاقة العربية - الروسية، فتراجع العرب، عن الانجراف أكثر للخط الروسي، والاقتراب من الخط الصيني للقناعة أن روسيا لم تعد الدولة القادرة على الموازنة مع أميركا؛ أصبحت الصين وجهة العرب في الاقتصاد والأسلحة والاتفاقيات المستقبلية. وهذا التوجه برز في المبادرة الصينية لإعادة العلاقات بين السعودية وإيران، وفي القناعة الراسخة بأن الصين هي المقابل الموازي للقوة الأميركية.

ويبقى السؤال: ما هي خيارات بوتين؟ القناعة السائدة حالياً أن بوتين ليس قوياً، وبلاده خسرت ثقلها، وسيضطر إلى الانصياع أكثر للصين ثم الهند اللتين تستفيدان من ورطته تجارياً واقتصادياً، ومُجبر الآن داخلياً على مشاركة آخرين من رجال أعمال وعسكر ويمين في صناعة القرار؛ كل هذا التغيير سببه أن بوتين لم يحسب حساباً جيداً لحربه، فوقع بما حذر منه الفيلسوف ميكافيلي، فخسر على كل الصعد. لكنه، رغم هذا، يبقى الرجل الأقوى في روسيا التي لا تحكم تاريخياً إلا عبر رجل قوي، وليس أمامه الآن الكثير من الخيارات سوى اثنين: أن يمضي في الحرب، مهما كانت التكلفة، أو يسحب قواته تحت غطاء وساطة صينية تضمن حيادية أوكرانيا.

الخيار الأول بمثابة انتحار؛ لأنه بذلك سيقاتل منظومة حلف «الناتو» التي طوقته، وتعزز يومياً وجودها على حدوده؛ الخيار الآخر سيخرجه من ورطة كبرى؛ لأن استمراره في القتال، كما يقول الفيلسوف، والجنرال سون تسو، لن يحمل خيراً؛ لأنه لا يوجد في التاريخ شاهد على بلد استفاد من حرب استنزاف طويلة.