تكسير مزيد من الأوهام

منذ 1 سنة 165

قلنا في الجزء الأول من هذا المقال إنه رغم قساوة الحرب وبشاعتها فإن أهم دروسها هو تكسير بعض الأوهام المتصورة عن الذات وعن الآخرين، وأنها تتيح الفرصة للأمم والشعوب لينظروا لأنفسهم في مرآة الواقع، ويتعرفوا على أنفسهم في ظروف مختلفة، من ثم تتكون صورة واقعية عن المجتمع بكل إيجابياته وسلبياته، وقد تتم الاستفادة منها، وقد تمضي مثل كثير من الفرص الضائعة في تاريخ الشعوب، وما أكثرها.

واحدة من الصور المتوهَّمة هي قدرات الجيش الوطني. صحيح أن الكثيرين لديهم ملاحظات حول عملية إضعاف الجيش الوطني خلال فترة حكومة البشير لصالح ميليشيات الحركة الإسلامية بمسمياتها المختلفة، ومنها قوات «الدعم السريع»، ثم شغل كبار الضباط وإفسادهم عبر المؤسسات الاقتصادية للجيش التي يتلقون منها أضعاف مرتباتهم، إلى جانب تسييس القوات النظامية كلها، بما فيها القوات المسلحة. رغم كل هذا كان أكثر المتشائمين يظنون أن أي معركة بين الجيش و«الدعم السريع» لن تحتاج إلا لأسبوع واحد يدحر خلالها الجيش قوات «الدعم السريع» في الخرطوم، مع تكلفة عالية قد تدمر الكثير من البنيات الأساسية، ثم هناك مخاوف ارتداد هذه القوات لبوادي دارفور وكردفان مما يشكّل إزعاجاً مستمراً للسلطات قد يصل لمرحلة فصل بعض المناطق من سلطة الحكومة المركزية.

بعد أربعة أشهر من المعارك اتضح أن الأوضاع في القوات المسلحة أسوأ مما تصور الناس، وأنها لم تستطع دحر وهزيمة قوات «الدعم السريع» في حرب المدن، رغم بسالة وإخلاص صغار الضباط والجنود، نتيجة لإهمال وضعف قوات المشاة وضعف الاستيعاب والتجنيد خلال السنوات الماضية، فيما كان كبار القادة، البرهان وكباشي وياسر العطا، يشاركون كل عدة أشهر احتفالات «الدعم السريع» بتخريج آلاف المجندين الجدد. والآن تدخل الحرب شهرها الخامس ووحدات القوات المسلحة موجودة داخل أسوار مبانيها، بينما تحتل قوات «الدعم السريع» شوارع مدن العاصمة الثلاث والمباني الحكومية ومنازل المواطنين.

كذلك تحطمت، وربما للأبد، صورة الحركات المسلحة في دارفور والموقِّعة على اتفاق السلام، فقد كانت كثيرة التهديد بالعودة للحرب كلما انتقد الناس الاتفاقية وعدّوها غير منصفة لبقية مناطق السودان. وكانت هناك صورة متضخمة لحجم وقدرات هذه القوات. وقد كشفت الحرب عن ضآلة قدراتها وضعفها، فهي لم تكن ذات تأثير حتى في مناطق دارفور المختلفة. اتخذت القوات موقف الحياد من أطراف الحرب، حسبما أعلنته، إلا أنها قالت إنها ستشكل قوة مشتركة لحماية المواطنين، لكنها لم تستطع أن تفي بهذه المهمة.

ولعل أكثر ما خدش صورة المواطن السوداني العادي هي عمليات نهب المصارف والمصانع والمؤسسات التجارية والمنازل وحتى البقالات الصغيرة، بواسطة مواطنين عاديين، هذه الصورة مخالفة للصورة العامة للسودانيين عن أنفسهم ومجتمعهم وحتى الصورة التي كونتها مجتمعات الجوار عن المجتمع السوداني. والحقيقة أن قوات «الدعم السريع» هي من بدأت اقتحام معظمها بحثاً عن المال والذهب والسيارات، إلا أن المواطنين العاديين هم من أكملوا عمليات النهب والسلب بشكل لم يحدث في تاريخ السودان. وفي محاولة أخرى للإنكار حاول البعض نسبة هذه العمليات إلى الأجانب واللاجئين، لكنّ الصور المتداولة لم تتح لهم فرصة للمضيّ في الإنكار. صحيح أن من مارس ذلك هم سكان الأحياء الهامشية والأطراف الفقيرة، لكنهم في النهاية مواطنون سودانيون ضحايا لسياسات الإفقار والإهمال والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

كثير من المجتمعات لديها تصورات ذاتية ومتوهمة عن نفسها، عبارة عن صورة مصمتة لا تتغير ولا تؤثر فيها الظروف المختلفة، وهي بالتأكيد مسألة غير واقعية تناقضها كل الدراسات والبحوث التي تدرس حركة المجتمعات وتطورها والتغيرات التي تتعرض لها، من لدن ابن خلدون إلى ماكس فايبر ومَن جاء بعدهم. المجتمعات المستقرة سياسياً وأمنياً واقتصادياً لديها سمات معينة، وإذا تغيرت ظروفها وتعرضت لحروب ونزوح وضغوط اقتصادية وأمنية تضطر لتغيير نمط حياتها وسلوكياتها لتستطيع البقاء في الحياة. لكن بالتأكيد لا يعني هذا أن المجتمعات ذات الظروف المماثلة لا بد أن تكون هي أيضاً صورة كربونية بعضها من بعض، فالمسألة أعقد من هذا، وتتداخل فيها ظروف ومؤثرات جغرافية وتاريخية واجتماعية وثقافية ودينية.

خلاصة القول إن السودان كبلد والمجتمع السوداني كله لن يظل كما كان قبل الحرب، هذه الحرب غيَّرت أوضاع وأشياء كثيرة، وخلخلت الكثير من المسلمات وطرحت تحديات جديدة، تحتاج لدراسات وبحوث جادة من علماء ومفكرين وأكاديميين يضعون خبراتهم ومعارفهم في خدمة البلاد والعباد لتساعد المجتمع السوداني أن يعبر هذه المحنة بأقل خسائر ممكنة، وأن يكون قادراً على التعامل مع المتغيرات.