تقصير أمد الحرب الأوكرانية

منذ 1 سنة 285

عندما أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باجتياح أوكرانيا قبل عام تقريباً، توقع العديد من المحللين مواجهة تتماشى مع النظرة السائدة للحرب على أنها ترنيمة قصيرة للقوة العسكرية.
تبلورت هذه النظرة على مدى عقود عديدة مع تلاشي ذكريات الحروب في العصور القديمة خلال القرن الثامن عشر. كانت حرب الفرس والروم التي دامت قرابة المائتي عام طويلة الأمد، شأن الحرب الدينية التي استمرت مائة عام، وتلك الحرب التي استمرت ثلاثين عاماً في أوروبا. والمعنى هنا أن الحروب باتت أقصر أمداً مع مرور الزمن. والحروب النابليونية، التي بدأت بالثورة الفرنسية، استمرت 23 عاماً. وكذلك استمرت حرب الانفصال الأميركية أربع سنوات. وباتت الحروب التي تستمر أربع سنوات نمطاً متكرراً في كلتا الحربين العالميتين. واستمرت الحرب الأميركية الفلبينية ثلاث سنوات كما حدث في الحرب الكورية. واستمرت الحرب الأميركية الإسبانية ثمانية أشهر، بينما استغرقت الحرب الأميركية المكسيكية عامين فقط.
وكما هو الحال دائماً، كان هناك استثناء واحد للقاعدة الجديدة، حيث استمرت حرب فيتنام قرابة عشر سنوات.
ومع ذلك، كان لدينا أيضاً حرب الأيام الستة بين إسرائيل وجيرانها العرب والاستيلاء الأميركي على «غرينادا» في غضون أربعة أيام. واستمرت الحرب بين الأرجنتين وبريطانيا العظمى على جزر فوكلاند 70 يوماً.
كانت الحرب السوفياتية في أفغانستان التي استمرت ما يقرب من عشر سنوات، والحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، سبباً لأن تتغير الصورة الذهنية للحرب بوصفها اشتباكاً شرساً قصير الأجل. ومع ذلك، عندما جاء اجتياح بوتين لأوكرانيا، كان غالبية المحللين لا يزالون يرون الحرب على أنها ترنيمة قصيرة للنصر وليست سيمفونية طويلة للموت.
ومع اقتراب عامها الثاني، يبدو أن حرب أوكرانيا ستصبح سيمفونية طويلة للموت بدلاً من ترنيمة قصيرة للنصر. لكن لماذا باتت أوكرانيا مسرحاً لحرب مكلفة قد تستمر إلى الأبد؟ أحد الأسباب هو أنها لم يجرِ إطلاقها كوسيلة لتغيير الوضع الراهن، ولكن كمحاولة للمحو التام لسياق بلورة ما بات وضعاً راهناً. أراد بوتين أن يعطي أوكرانيا صبغة روسية، إذ إنه رغم التاريخ الطويل من تبادل الخبرات الروسية، فقد كانت أوكرانيا تسير باتجاه تشكيل هوية مستقلة ومتميزة. وهكذا ساد الشعور بأن الهزيمة في ساحة المعركة أقل تأثيراً من الاستسلام لقوة متفوقة في طريقها إلى الانقراض كدولة قومية.
لا يتحقق كسب أو خسارة أي حرب حتى يعترف أحد الطرفين بالهزيمة، أو يدمر أحد الطرفين الجانب الآخر تماماً. لم يعترف هتلر بالهزيمة، وهو ما كان وارد الحدوث حتى عام 1944؛ لأن ذلك كان سيعني نهاية إمبراطورتيه.
في حرب الأيام الستة، اعترف الزعيم المصري جمال عبد الناصر بالهزيمة؛ لأن ذلك لم يشكل تهديداً وجودياً لمصر أو حلمه بعبور قناة السويس صوب الضفة الأخرى.
بدأت الحرب السمفونية في أوكرانيا بمبادرة قصيرة وحادة شهدت وصول قوات بوتين إلى جزء من الشواطئ الأوكرانية لنهر «دنيبر» والتقدم صوب منطقة «دونباس»، ثم تمكنت أوكرانيا من إيقاف التقدم الروسي تماماً بعد أسابيع فقط من الاجتياح.
بحلول أبريل (نيسان)، تحولت ما بدأ كحرب حركة إلى حرب مواقع. ومنذ ذلك الحين، أدى النجاح الأوكراني في استعادة أجزاء من الأراضي إلى خلق ما يطلق عليه «وهم الحركة». ومع ذلك، فإن الواقع على الأرض يصور حالة من الجمود من الناحية العسكرية.
لم يمنع هذا الجمود، أو ربما تسبب، في تغييرات اجتماعية وسياسية، ليس فقط في الأجزاء التي تسيطر عليها روسيا في «دونباس»، لكن أيضاً في شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في عام 2014.
في لوهانسك (مدينة أوكرانية قريبة من الحدود الروسية)، فقدت موسكو السيطرة التي حققتها قبل بضعة أشهر، وباتت الأراضي الأوكرانية القريبة منها مقسمة بين عدة متنافسين بغرض فرض السيطرة.
لا تزال الميليشيات المحلية الموالية لروسيا تهيمن على جزء واحد من الإقليم، بينما أقام مرتزقة «فاغنر» إقطاعيتهم الخاصة. ويوجد «المتطوعون» الشيشان والمقاتلون «المتعاقدون» السوريون في جزء آخر من «لوهانسك». في شبه جزيرة القرم، أقام بوتين وحدات مسلحة مختلطة من التتار وأصحاب العرق الروسي كمساعدين لجيشه في مواجهة نقص أعداد المقاتلين.
في «دونيتسك»، تشعر روسيا بقلق متزايد بشأن تغيير الجماعات المحلية الموالية لروسيا. وهذا هو السبب في تسارع وتيرة نقل سكان «دونيتسك» إلى روسيا، ظاهرياً لأسباب إنسانية، في الأسابيع الأخيرة.
في كل من «دونيتسك» و»لوهانسك»، سمح غياب السلطة الفعالة للعصابات الإجرامية، بمن في ذلك تجار السوق السوداء ومهربو البشر، ببناء قواعد للعمليات العسكرية.
إن الجمود القاتل، أو سيمفونية الموت، طال أمدها بسبب عدم النجاح في إدراك أن الهدف المتمثل في طمس هوية أوكرانيا قد أوقع الروس في حرب طويلة من المواقف التي لا يمكنهم السير فيها إلا بشن هجمات متواصلة ذات نتائج عكسية في نهاية المطاف، من دون خوض حرب شاملة، على أهداف مدنية، وهو ما يمكن أن يعزز التحدي الأوكراني. ويظهر تعيين الجنرال فاليري جيراسيموف، أكبر قائد عسكري روسي، قائداً في حرب أوكرانيا أن بوتين غير مستعد لتغيير مساره.
ومع ذلك، تساعد الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون أيضاً في إطالة أمد هذه الحرب، حيث يدعي المحللون المناهضون للغرب أن هذا يرجع إلى رغبة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في إطالة أمد الحرب لاستنزاف روسيا، وإيجاد وضع جديد في أوروبا مع توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو).
أنا لا أتفق مع هذا الرأي، لكنني أعتقد أن إدارة بايدن، شأن حليفتها الأوروبية الرئيسية ألمانيا وفرنسا، تفتقر إلى الرؤية، أو الشجاعة، لتزويد أوكرانيا بالأجهزة اللازمة لتهديد شعور روسيا بالحصانة. إن تقديم مجموعة محدودة من الأسلحة المعاد تدويرها، والإيماءات الدبلوماسية مثل إنشاء محكمة لمحاكمة بوتين ورفاقه، لن تقصر سيمفونية الموت هذه.
الأمور لا تسير على ما يرام بالنسبة لروسيا. فالصناعة الروسية تتعرض لضغوط لتوفير الاحتياجات المادية لهذه الحرب المكلفة. والطريقة الوحيدة لتقصير أمد الحرب هي رفع إيقاعها. فقد تم تقصير أمد الحرب في أفغانستان عندما زودت إدارة الرئيس رونالد ريغان التمرد المناهض للسوفييت بصواريخ «ستينغر» التي أنهت سيطرة الجيش الأحمر على السماء بطائرات هليكوبتر حربية وناقلات الجنود.
إن قرار بريطانيا وفرنسا تزويد أوكرانيا بعشرين أو ثلاثين مركبة آلية ودبابة بإيماءة من واشنطن يظهر أن القوى الغربية لا تزال عالقة في المأزق الذي يأمل بوتين في الإبقاء عليه على الأرض.
لحظة «ستينغر» التي يمكن أن تقصر أمد هذه الحرب لم تأت بعد.