يتزايد تدريجاً الوعي لدى الشركات بقيمة وضع سياسات مراعية للموظفين وأسرهم داخل بيئة العمل، لكن لم تصبح حقيقة واقعة بالنسبة إلى معظم الأسر حول العالم حتى اللحظة، إنما نجد بعض التطبيقات الفردية التي تصدر عن بعض المسؤولين في أماكن متفرقة، لكن على المستوى العام 42 بلداً فقط تطبق سياسات وطنية توفر للوالدين ومقدمي الرعاية وقتاً وموارد (إجازة أمومة لمدة ستة أشهر وإجازة أبوة لمدة أربعة أسابيع) للعناية بأطفالهم.
أربع زمر
وبحسب ما تشير إليه الأدلة يحتاج الطفل إلى تعزيز نمو دماغه خلال المراحل الأولى من حياته، وإلى التغذية الصحيحة والبيئة المبنية على الرعاية والتحفيز، ليحصل بذلك على البداية الأفضل له في الحياة، لكن وبسبب ندرة وجود السياسات الداعمة للأسر حول العالم تضعف قدرة الوالدين على إقامة رابطة آمنة مع أطفالهم في هذه المرحلة.
ومن هنا تقترح "اليونيسيف" تطبيق سياسات صنفتها في أربع زمر، الأولى هي توفير إجازة كافية لكلا الوالدين، في كل من القطاعين الرسمي وغير الرسمي، تشمل إجازة الأمومة وإجازة الأبوة والإجازة والوالدية وإجازة رعاية الأطفال الصغار المرضى مدفوعة الأجر، والثانية هي دعم قدرة الأمهات على الرضاعة الطبيعة حصرياً حتى إكمال الأشهر الستة، والثالثة ضمان حصول جميع الأطفال على رعاية ميسورة الكلفة وعالية الجودة للأطفال وعلى التعليم المبكر أيضاً، والزمرة الأخيرة هي تقديم تعويضات الطفل والأجور الكافية لمساعدة الأسر في توفير الرعاية لأطفالها الصغار.
زوايا الألماسة
ونوهت المنظمة إلى أن تعزيز هذه السياسات يتطلب توحيد أربعة أطراف فاعلة رئيسة لتشكل نهجاً متكاملاً، شبهتها بالزوايا الأربع للألماسة وهي، الحكومات والشركات والأسر والمجتمع المدني (بما في ذلك المنظمات الدولي ولنقابات لعمالية والمنظمات المجتمعية والقطاع غير الربحي والشبكات غير الرسمية)، وتشدد المنظمة على أهمية التنشئة الصحية والتعليمية للأطفال، ووضع وتطبيق هذه السياسات، إذ وجدت رابطاً قوياً بينها وبين رفع الإنتاجية واجتذاب الموظفين وتحفيزهم.
وتوضح "اليونيسف" في تقريرها أن الفائدة من تطبيق هذا النوع من السياسات يمكن أن يرخي بظلاله على الجميع ويحقق فائدة للأطفال والنساء والأعمال والاقتصاد على حد سواء، فالسياسات الصديقة للأسرة لا تؤتي ثمارها في إنجاب أطفال أكثر صحة وتعليماً وفي تحقيق قدر أكبر من المساواة بين الجنسين والنمو المستدام فحسب، بل إنها ترتبط بشكل مباشر بتحقيق إنتاجية أفضل للقوى العاملة. وانطلاقاً من هنا توجه "اليونيسيف" النداء إلى قطاع الأعمال والحكومات للقيام باستثمارات أكبر في السياسات المراعية للأسرة وإعادة تصميم أماكن العمل للمستقبل وتمكين الوالدين، لما لها من تأثير مباشر في الأعمال والاقتصاد أيضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فائدة متنامية التأثير
بالنسبة إلى الأطفال يمكن أن يحسن تطبيق السياسات الداعمة في مرحلة الطفولة المبكرة من مهاراتهم وقدراتهم وإنتاجيتهم في المستقبل، كما يقف عدم تطبيق هذه السياسات عائقاً في وجه سعي الوالدين إلى تقديم الأفضل لأطفالهم، فلا وقت متوفراً يمضونه معهم بسبب ساعات العمل الطويلة، وبالتالي يظلون بعيدين من المنزل في أهم فترة من حياة أطفالهم. أما بالنسبة إلى النساء فتضمن "اليونيسيف" تقريراً صادراً عن شركة "مكنزي" عام 2015 يذكر فيه أن من شأن المشاركة المتساوية للنساء في قوى العمل أن تضيف 12 تريليون دولار للاقتصاد العالمي بحلول عام 2025، بالتالي تتيح خدمات الرعاية المقترحة المحافظة على مشاركة النساء في العمل وبالتالي المساهمة في النمو الاقتصادي.
من جهة أخرى يمكن أن تؤدي هذه السياسات إلى حد الفجوة بين الجنسين وتحسين رفاه الأسرة وتخفيف الإجهاد عن الوالدين بتوزيع أعمال الرعاية المنزلية وتمكين الآباء من المساهمة في مسؤولية رعاية الأطفال، بالتالي حماية المرأة من الاضطرار إلى ترك العمل بعد إجازة الأمومة، وإعطائها فرصة الارتقاء بمسيرتها المهنية وزيادة الاحتفاظ بالموظفين عموماً وتقليص التغيب عن العمل.
بين الأمنيات والواقع
ومن الواضح أن تقرير "يونيسف" ينطلق من اهتمامه بالصحة النفسية للأطفال بخاصة في سنوات حياتهم الأولى، ففيها يتكون الارتباط بينهم وبين الوالدين، مما ينعكس على بقية حياتهم عندما يكبرون. ومن خلال تطبيق هذه السياسات يمكن أن نوفر بيئة تساعد الأطفال في التعلق الآمن، عكس ما يحدث عند تغيب الأهل عن المنزل، إضافة إلى ما تطرحه المنظمة من مكتسبات أخرى تعود بالنفع على جميع الأطراف المشاركة.
لكن يجد بعض المتابعين أن هذه السياسات غير متسقة مع الوضع في الدول العربية، بخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار نظام العمل من جهة وطابع أماكن العمل من جهة أخرى، فسياسات من هذا النوع تتطلب تغيير نظام بكامله، إضافة إلى نقل موقع العمل إلى مبنى آخر، أو توفير أماكن ملحقة إضافية قريبة منها. وفي حال توفرها ضمن المبنى ذاته، يجب أن تتمتع بدرجة جيدة من الأمان والنظافة والصحة، إضافة إلى توفير معدات ضرورية للتخزين والتبريد وما شابه.
وكذلك تغيير كامل في القوانين الناظمة للعمل والمحددة لحقوق كل من الطرف العامل وجهة العمل، إضافة إلى عوائق تتعلق بمدى تقبل الوالدين ذاتهم لهذه المقترحات ومدى توافقها مع نمط حياتهم وظروف معيشتهم والقوانين الاجتماعية الحاكمة لكل مجتمع. ومن هنا تبدو هذه الدعوة صعبة التطبيق، إلا أنه وبعد دراسة أكثر شمولية لاقتراحات المنظمة نجد أنها أكدت في الختام ضرورة تصميم هذه السياسات كحزمة شاملة ومتوازنة تراعي الوقت والموارد والخدمات على حد سواء، والأهم مراعاة أشكال الأسر المختلفة والوظائف غير التقليدية والأدوار المختلفة التي تضطلع بها النساء عاملات ومربيات، كما تقدم ضمن منشورها المقترح مجموعة من التوصيات العملية لكل من الحكومات والأعمال التجارية يتضمن بعضها أن يكون تطبيقها مناسباً للعرف السائد.
وكذلك افترضت "اليونيسيف" مسبقاً ظهور تحديات متنوعة من خلال دعوتها مشاركة أطراف عدة إلى دعم هذه المقترحات، إذ يبدو أن المنظمة ترى أن عوائد هذه السياسات سيكون لها نفع أكبر من أي استثمار يرصد في سبيل تحقيقها، لكن هل يمكن أن تجد هذه الدعوة صدى لدى الأسر والمجتمع المدني والحكومات وقطاع الأعمال؟