تدهور الاقتصاد الصيني

منذ 1 سنة 159

انهمرت التقارير والتوقعات المتشائمة حيال الاقتصاد الصيني، بعد سلسلة من الأحداث الأسبوع الماضي، منها مخالفة نتائج شهر يوليو (تموز) لمبيعات التجزئة والإنتاج الصناعي التوقعات، وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات قياسية، وإعلان شركة «إيفرغراند» العقارية العملاقة إفلاسها في الولايات المتحدة. لم تكن هذه الأحداث وحدها الدافع الوحيد للتشاؤم حيال الاقتصاد الصيني، بل هناك عدد من الحيثيات والتحديات الأخرى، مثل فشل النمو في تلبية التوقعات بسبب انخفاض الطلب، ووقوع الشركات والمؤسسات الحكومية الصينية تحت طائلة الديون، وانخفاض اليد العاملة، والقيود الغربية المفروضة على نقل التقنية. كل ذلك طرح فكرة قد لا تكون جديدة، ولكنها لم تُؤخذ على محمل الجد قبل ذلك، وهي أن فترة ازدهار الصين التي امتدت أربعين عاما قد انتهت، وأن الصين لن تصبح بعد اليوم محرك نمو الاقتصاد العالمي، وما تعثراتها في ربيع هذا العام إلا نذير بمشكلة أكثر خطورة على المدى البعيد. فما أسباب وصول الصين إلى ما هي عليه اليوم؟ وما مدى مصداقية هذه التقارير؟

ارتكزت الصين خلال فترة نموها على يدها العاملة، واستطاعت الحكومة الصينية التعامل مع ما رآه الجميع مشكلة، وهو عدد السكان، محولة إياه إلى نقطة قوة، ورافعة بذلك إنتاجيتها إلى مستويات مكّنت اقتصادها من نمو تاريخي. وانتشلت خلال هذه الرحلة مئات الملايين من الصينيين من تحت خط الفقر. ولكن الصين اليوم ولأول مرة منذ عام 1961 تشهد انخفاضاً في عدد السكان، هذا الانخفاض لم يكن متوقعاً حتى عام 2029 على الأقل. وتوقعت الأمم المتحدة أن يستمر انخفاض سكان الصينيين ليصل إلى 800 مليون بنهاية هذا القرن، مقارنة بـ 1.4 مليار حالياً.

ولسنوات طويلة اعتمدت الصين نظام الطفل الواحد، حتى وصلت نسبة الخصوبة لـ 1.2 طفل لكل امرأة. وفي عام 2021 غيرت الحكومة هذه السياسة من طفل واحد إلى 3 أطفال، إلا أن الأسلوب المعيشي اختلف الآن في الصين مقارنة بالسنوات الماضية، فالأسعار ارتفعت كثيراً في الصين التي تعد اليوم إحدى أغلى الدول في العالم لتكوين أسرة وتربية الأطفال، وأصبحت الكثير من الأسر تفضل مولوداً واحداً، بل عزف الكثير من الجيل الحالي عن الإنجاب. وانخفضت نسبة الإنجاب لتصبح نصف ما كانت عليه قبل 7 سنوات. هذا التوجه سيجعل الصين تعاني من تحديات مستقبلية، منها ما هو ظاهر اليوم وهو انخفاض عدد اليد العاملة التي كانت تراهن عليها الصين، ومنها أيضاً ارتفاع معدل أعمار الشعب، وهو ما سيضع ضغطاً في المستقبل على الحكومة لتوفير الرعاية الاجتماعية.

وقد يقول قائل إن هناك تعارضاً بين انخفاض عدد السكان، وارتفاع معدلات البطالة، حيث يفترض أن تزيد فرص العمل للشباب عند انخفاض عدد السكان. والواقع أن نوعية الوظائف المتوافرة أصبحت لا تتناسب مع الباحثين عن عمل، فعدد الخريجين من الجامعات في الصين لهذا العام وحده نحو 11 مليون خريج، وهو بلا شك أمر يحسب للصين التي بلغت نسبة الأمية فيها عام 2000 واحداً لكل 10 بالغين. في المقابل فإن الوظائف المتوافرة لا تتناسب مع طموحات هؤلاء الخريجين، وهو ما جعل القادة الصينيين ينتقدون الشباب بوصفهم غير جيدين في العمل اليدوي ولا راغبين في الانتقال إلى الأرياف.

وقد وصلت معدلات البطالة للصينيين بين الأعمار 16 إلى 24 نحو 21.3% وهي الأعلى تاريخياً، وقد أوقفت الحكومة بعده هذه الإحصائية إعلان البيانات تماماً، وهو إجراء يتناسب مع طبيعة الحكومة الصينية، ولكنه بكل تأكيد لا يساعدها في جذب الاستثمارات الأجنبية التي قد تكون أحد الحلول المهمة لدعم اقتصاد الصين في المستقبل، والتي بكل تأكيد لا تشجعها سياسة التعتيم على البيانات.

وفي المقابل، فإن الصين تستنكر هذه التقارير، وترى أن وسائل الإعلام الغربية تضخم المشكلات الحاصلة في الصين حالياً لأسباب سياسية. وقد كان رد وزير الخارجية الصيني قاسياً حين قال: «إن الواقع سوف يصفعهم على وجوههم». وقد يكون للصين مبررها في هذا الرد، والمبرر ليس من المسؤولين الصينيين وحدهم، فصندوق النقد الدولي توقع أن يشكل نمو الصين هذا العام ما نسبته 35% من النمو العالمي، هذا التوقع كان بداية العام، ولم يحدث في الصين بعد ما يجعل هذا التوقع المتفائل ينقلب إلى التشاؤم الحالي.

لا شك أن للغرب أجندته في محاولة الضغط على الصين بهذه التقارير التي توصّل بعضها إلى أن دور الصين الاقتصادي في المستقبل قد جرى تضخيمه كما ضُخم دور اليابان في التسعينات، وروسيا قبلها في الستينات الميلادية، حيث دخل كلاهما في دوامات دهورت اقتصادهما. ولا يمكن الحكم على مستقبل الاقتصاد الصيني من النتائج الربعية، أو من أداء قطاع العقار حتى إن كانت نسبته ضخمة من الناتج القومي الصيني. ولكن المتأمل في الواقع الصيني يدرك أنها تعاني من مشكلة ديموغرافية، فالتوجه السكّاني لا يتناسب مع النموذج الاقتصادي الحالي، وهو ما يستدعي إصلاحات هيكلية جديدة في الدولة قد تعطل الصين على المدى القصير، ولكنها جوهرية لاستمرار الازدهار الاقتصادي.