تداعيات حرب غزَّة تصل إلى لندن

منذ 1 سنة 127

سُخونةُ الحرب في غزّة وصلت تداعياتها مبكراً إلى لندن. وكما هو متوقع، رفعت سريعاً من درجة حرارة الصراع على السلطة في أروقة حزب المحافظين الحاكم، كما عملتْ على شقّ صفوف العماليين مؤخراً. رأس وزيرة الداخلية السيدة سويللا بريفرمان كان أول الرؤوس المتدحرجة على الأرض. وبطردها من حكومة ريشي سوناك، خسر الجناح اليميني الشعبوي في حزب المحافظين موقعه على منضدة الحكومة.

وفي الجهة المقابلة للمحافظين، خسر ثمانية من وزراء حكومة الظل العمالية مناصبهم، بعد أن قدموا استقالاتهم، أو طردوا من مناصبهم، بسبب تمرّدهم على زعيم الحزب السير كير ستارمر، بتصويتهم على مشروع قرار برلماني قدمه الحزب القومي الأسكوتلندي، بوقف النار في غزة.

القشّةُ التي قصمت ظهر وزيرة الداخلية السابقة السيدة بريفرمان جاءت على إثر تصريحات أدلت بها ضد المظاهرات الضخمة التي شهدتها شوارع لندن ضد الحرب في غزة، بوصفها مظاهرات كراهية، وتؤيد الإرهاب. وأعقبت ذلك بنشر مقالة في صحيفة «التايمز» وصفت فيها شرطة العاصمة بعدم الحياد في التعامل مع المظاهرات، أي إنها غير متسامحة مع مظاهرات اليمين المتطرف، ومتسامحة جداً مع مظاهرات اليسار.

طردها من منصبها في وزارة الداخلية قابله من جهة أخرى فتح الباب أمام عودة رئيس حكومة سابق، وعلى غير توقع، هو السيد ديفيد كاميرون، ومنحه على وجه السرعة رتبة لورد، وتعيينه وزيراً للخارجية. السيد كاميرون استقال من زعامة الحزب ورئاسة الحكومة، عقب الاستفتاء على بريكست في عام 2016. عودته إلى الصفوف الأولى في الحكومة تعدُّ الأولى من نوعها لرئيس حكومة سابق خلال 50 عاماً.

في أول اجتماع للحكومة الجديدة، كانت صورة المجتمعين المنقولة في وسائل الإعلام واضحة المعالم، وتحمل رسالة تؤكد على عودة جناح يمين الوسط المعتدل إلى الإمساك بمقاليد الأمور. وفي الجانب غير المرئي منها، كان جناح رئيس الوزراء الأسبق السيد بوريس جونسون الشعبوي، يضمد جراحه، ويفكر في الخطوة التالية، لاسترداد ما خسر من مواقع. التقارير الإعلامية تقول إن حرباً أهلية في حزب المحافظين على وشك الاندلاع. وبدأت نذرها تظهر في وسائل الإعلام الموالية للمحافظين.

إنّها الحربُ في غزّة، وقد انتقلت بسرعة إلى أروقة حزبي المحافظين والعمال، على بعد أقل من عام من الانتخابات النيابية المقبلة. المحافظون بانقساماتهم يحدقون في الهزيمة الانتخابية المتوقعة قريباً، وقد أوصدت أمامهم كل طرق الإنقاذ. والعماليون فاجأهم الانقسام وأربكهم، في وقت يستعدون فيه لتخطي العقبة الانتخابية الأخيرة، وتسلم السلطة.

حروب حزب المحافظين تكاد لا تنتهي منذ بريكست. وهي حروب دموية النهايات والخسائر كارثية، ليس على الحزب فقط، بل تطال بريطانيا. كما أن حروب العمال ليست أقل دموية منها. وها هو السير ستارمر، زعيم الحزب، يدخل في أول مواجهة له ضد تمرد في الصفوف الأولى من حكومة الظل، حول موقفه المعارض لوقف إطلاق النار في غزة. الصفوف الأولى عادة تضم النخبة السياسية المقربة من الزعيم، والتي في حالة اجتياز العقبة الانتخابية المقبلة، سيتولون الإمساك بمقاليد مختلف الوزارات في البلاد.

طرد السيدة بريفرمان من الحكومة لم يكن مفاجئاً لأحد، بل كان متوقعاً، كونها لم تتوقف عن إصدار تصريحات إعلامية مثيرة للجدل، ومزعجة للحكومة.

هذه المرة الثانية التي تلاقي فيها السيدة بريفرمان عقوبة الطرد من الوزارة. فخلال فترة حكم السيدة ليز تراس، التي استمرت سبعة أسابيع فقط، طردت من منصبها كوزيرة للداخلية بسبب تسريبها وثيقة سرّية إلى أحد النواب. تلك الوثيقة لسوء الحظ أرسلت خطأ عبر الإنترنت إلى شخص آخر بالبرلمان، فكشفها. ونالت هي ما تستحق. ومن الضرورة بمكان الاعتراف بأنها سيدة عنيدة، وقوية، وجريئة في طرح أفكارها سياسياً إلى حد التهور. وهو ما يجعلها رقما صعباً في أي حكومة، كونها ترفض الامتثال لقواعد اللعبة السياسية، كما ترفض اللعب الجماعي ضمن فريق.

خروجها من الحكومة لا يعني أن أحوال رئيسها السيد سوناك سوف تتحسن. فخطاب العرش الذي قدمه مؤخراً عن برامج سياساتها خلال الشهور المقبلة كان هزيلا بإجماع المعلقين، وليس بين أجندته ما يخفف من ثقل المتاعب الحياتية للمواطن البريطاني. كما أن المحكمة العليا قضت بعدم قانونية إرسال المهاجرين غير القانونيين إلى رواندا، مما سيزيد من نقمة التيار الشعبوي في الحزب، ويوفر له ذخيرة جيدة لاستئناف الهجوم على رئيس الحكومة.

أقل من عام يفصل بريطانيا عن الانتخابات. وها نحن نرى الحزبين الرئيسين يدخلان في نفق معتم بالانقسامات. المحافظون يعتقدون بأن عودة اللورد كاميرون بخبرته الانتخابية الهائلة، كونه الفائز في حملتين انتخابيتين، سوف تعيدهم إلى حلبة السباق. والعماليون كانوا يظنّون أنهم ضمنوا الوصول إلى 10 داونينغ ستريت، ولا ينقصهم سوى حفل التتويج. لكن ريح الحرب القادمة من غزة قلبت الأمور فجأة.