في المقطع الأخير الذي سأورده مما قاله نجيب محفوظ في «مراياه» عن أستاذه منصور فهمي، لمعرفة التعليل الحقيقي لكراهيته له، يقول:
«غاب الدكتور إبراهيم عقل عن عيني مرة أخرى، وإن لم تغب عني مأساته طويلاً، وفي صالون قصر المنيرة علمت بما طرأ عليه من أحوال في الأعوام التالية للحادث، قيل إنه أصبح يُرى كثيراً في جامع الحسين، وإنه يمضي الساعات متربعاً أمام المقام، وفي كلمة أنه يتدروش ويسلّم للإيمان تسليماً بلا قيد أو شرط. وأثار مسلكه الكثير من الجدل عن الإيمان بصفة عامة، والإيمان بالنشأة، والإيمان بالاقتناع، والإيمان بسبب الكوارث، وإيمان الفلاسفة، وإيمان العجائز، وكان ماهر عبد الكريم يفنّد كل حجة يأنس منها هجوماً، ولو من بعيد على مسلك صديقه القديم. وفي عام 1950 ترك الدكتور إبراهيم عقل الخدمة لبلوغه السن القانونية؛ فتفرغ تماماً للدروشة، وفي يوم من عام 1953 صادفته أمام الباب الأخضر بحي الحسين – ذاهباً أو راجعاً من الجامع لا أدري - فجذبتني طلعته المهيبة المجللة بالمشيب...».
مأساته كان نجيب محفوظ حكاها قبل هذا المقطع، فقال عنها: «مرّت ثلاثة عشر عاماً دون أن أراه حتى عرضت مناسبة غير سارة، بل مناسبة مؤسفة غاية الأسف؛ إذ فقد ابنيه الوحيدين في وباء الكوليرا الذي اجتاح البلاد عام 1947».
حين ننتقل في القراءة من الشخصية الأولى في «المرايا» شخصية إبراهيم عقل أو منصور فهمي، إلى الشخصية الثانية، شخصية أحمد قدري، قريبه ورفيقه منذ سنوات الطفولة، وإن كان يكبره بخمس سنوات، الذي عمل في الأربعينات الميلادية عضواً في البوليس السياسي، يفاجئنا نجيب محفوظ برواية أخرى عن طريق هذه الشخصية تقول إن ابني إبراهيم عقل أو منصور فهمي ماتا غيلة، ولم يموتا بوباء الكوليرا الذي تفشى في مصر عام 1947.
«فضحك قائلاً: يبدو -والله أعلم- أن الكوليرا لم تكن هي الجانية. فهتفت بذهول: ماذا تقول؟!
- رئيسي رحمه الله همس لي يوماً في مجلس صداقة حميمة بأنهما قتلا؟!
- ولكن كيف قتلا؟ ومن الذي قتلهما؟!
- لا شيء مؤكد، صدقني لا شيء مؤكد، حتى رئيسي نفسه لم يكن لديه أكثر من همس، تسلل إليه خبر عن غرام امرأة هامة وشخص من رجال الملك، وجريمة قتل في بيت خلوي بالطريق الصحراوي».
هاتان الروايتان هما من خيال نجيب محفوظ الروائي المحض، فابنه الأكبر الطبيب وائل وأخوه المهندس سَدَاد الذي يصغره بالسن لم يتوفيا وهما في ربيع العمر، بل مد الله -ومعهما أختهما منى- في أعمارهم. وكان آخر من توفي في هؤلاء الثلاثة هو سَدَاد، الذي توفي قبل ما يدنو من خمس سنوات ونصف السنة. وكان قد صدر له عام 2013 كتاب أعدّه عن أبيه عنوانه «من تراث منصور فهمي».
كذلك فيما يتعلق بحياة منصور فهمي العائلية، فلقد أمات خيال نجيب محفوظ الروائي زوجته المربية إنصاف سرى قبل وفاته بعام، لسبب سأذكره، بعد إيراد السطور التي ضمّن فيها هذا الخبر.
«وغاب عني من جديد حتى قرأت نعيه عام 1957 على ما أذكر، وأطرف ما سمعت عنه بعد ذلك ما قيل عن عثور ابن أخيه على مخطوط له لترجمة غاية في الجمال لديوان (أزهار الشر) لبودلير، لم يعرف بالضبط تاريخ ترجمته، ولما كان ابن أخيه هو الوريث الوحيد له -توفيت زوجته للعام السابق لوفاته- فقد أذن بنشره، وهكذا بقي اسمه في المكتبة العربية مقروناً باسم بودلير على ديوان (أزهار الشر)».
لقد أماتها ليكون ابن أخيه هو الوريث الوحيد له، الذي عثر على مخطوط عمّه الذي ترجم فيه ديوان بودلير (أزهار الشر)، ثم أذن بنشره. وأن هذا الترجمة -بما معناه- حفظت اسم منصور فهمي في المكتبة العربية بعد وفاته، من خلال هذا العمل اليتيم.
ثمة واقعة صحيحة تتعلق بترجمة هذا الديوان إلى اللغة العربية في كتاب لكنها تخص مترجمه الحقيقي، الشاعر إبراهيم ناجي، وليس مترجمه المتخيل منصور فهمي.
فبعد وفاة الشاعر إبراهيم ناجي بعام أو ما يقرب من العام، نشرت «رابطة الأدب الحديث» عام 1954، بالتنسيق مع أخيه الأكبر محمد ناجي، مخطوطه الذي يحمل هذا العنوان: «قصائد من أزهار الشر» الذي قدم فيه لبعض القصائد التي اختارها من ديوان بودلير فترجمها، بترجمة لحياته وتحليل سيكولوجي لشخصيته.
بقي أن أوضح ما هو الحقيقي في واقعتين حوّر نجيب محفوظ زمنهما قليلاً من السنوات.
الأولى، أن منصور فهمي بلغ سن التقاعد عام 1946، وليس عام 1950.
والأخرى، أنه توفى عام 1959، وليس عام 1957.
التعليل الحقيقي لكراهية نجيب محفوظ لأستاذه يكمن في سببين: سبب سياسي وسبب فكري. فهذان السببان هما اللذان جعلاه يظهره بصورة بائسة ومزرية، وينال من شخصه بالتهكم والسخرية والسباب.
في الخط الروائي الذي قدم نجيب محفوظ فيه صورة أستاذه، يتقدم السبب الفكري على السبب السياسي، لكن ما لبث السبب الفكري بعد أسطر قليلة أن توارى إلى الخلف، ليهيمن على حكاياته عنه السبب السياسي. وفي خواتيم تلك الصورة التي قدمها عنه أطلّ السبب الفكري مرة أخرى وأخيرة.
في هذه الأسطر القليلة، قال نجيب محفوظ عنه: «بشّر في وقت ما بثورة فكرية في حياتنا الثقافية»، وكان يشير هنا تحديداً إلى رسالته للدكتوراه في جامعة السوربون المشهورة بعنوان «أحوال المرأة في الإسلام».
هذه الرسالة التي نوقشت وطبعت باللغة الفرنسية، عام 1913، هي حقيقة تمثل في زمنها وفي مضمونها ثورة اجتماعية وفكرية في قضية المرأة في تاريخ الإسلام، وفي قضية السعي إلى تحرير المرأة المسلمة.
ولم يكتفِ منصور فهمي بهذا، بل بشّر في خاتمة الرسالة/ الكتاب بتلك الثورة وحتمية نجاحها المؤكد والمحسوم.
وبتفاؤل مستقبلي فائض لا يتفق مع ما سيؤول إليه مستقبله لسنوات معدودة، ولا مع ما سيكون عليه بعد أمد قصير من كتابته لسطور الخاتمة، من ناحية التقدمية والتحررية والنضال في سبيلهما، يقول منصور فهمي: «ولكن العوامل الاجتماعية التي لعبت دورها في تزايد انحطاط المرأة هي في طريق الانحلال، والمؤسسة الثيوقراطية أو الحاكمة دينياً التي تسيطر وتعتّم على الجميع هي أيضاً في طريق الزوال. فالتطور الذي لا مفر منه أخذ في التشكّل لتحرير المضطهدين. وقريباً فإن الصورة العليلة للمرأة المسلمة ستتغير وستتحلى بالعافية والحيوية، وعندما تنجح جهود الشبيبة التقدمية بإصلاح المجتمع وتنظيفه من التقاليد البالية، وعلى أنقاض المؤسسات المحطمة ستتشكل مؤسسات أخرى محافظة على خاصية وطبيعة الشعوب والأوساط الإسلامية. وأن تحرير المرأة سيتبع -بالضرورة- نفس قوانين المؤسسات الجديدة. وبعيداً عن تقليد المرأة الأوربية ستُحرر المرأة المسلمة وستتطور وستأخذ كرامتها وأخيراً حقوقها حسب تاريخ وعبقرية شعبها».
وفي كلماته الأخيرة في هذه الخاتمة عبر عن إكباره وإجلاله لقاسم أمين ولمسعاه في تحرير المرأة، إذ قال: «لا يسعني إلا أن أحني الرأس أمام ذكرى الكاتب المصري قاسم أمين الذي بذل حياته في سبيل تحرير المرأة والذي خطفه الموت قبل أن يتمكن من التمتع بنتيجة أعماله: فلنأمل أن تتواصل مسيرة التقدم لكي تكمل رسالته».
حين فصلت الجامعة المصرية الأهلية منصور فهمي عام 1914، وكان قد أمضى في العمل فيها مدرّساً للمذاهب الفلسفية ستة أشهر، وبعد مكابدة ومعاناة في تحصيل رزقه، تخلى عن ثوريته في ميدان الدين والفكر، وفي قضية تحرير المرأة المصرية والمرأة المسلمة. وصار يجنح إلى اتجاه إصلاحي مهادن. وهذا الاتجاه غير الثوري كان جليّاً في مقالاته الصحافية التي والَى نشرها من عام 1915 إلى عام 1930، وهو العام الذي تعرّف فيه نجيب محفوظ إلى منصور فهمي، بوصفه مدرّساً له من ضمن مدرسين آخرين، أجانب ومصريين، في قسم الفلسفة.
في تلك الأسطر القليلة في مفتتح حديثه عن ذكرياته عن منصور فهمي لم يومئ إلى تحول فكري أساسي جهر منصور فهمي به في محفل ضم جماعة من الناس في مطلع عام 1931. هذا التحول هو اتجاهه إلى الإيمان الديني. وشاء نجيب محفوظ – وفقاً لخطته الروائية المتخيلة – أن يرجئ بسط الحديث عنه إلى خواتيم الصورة التي قدمها عن تحوله، وكان فيها حد كبير من المبالغة، إذ جعل تحوله إلى الإيمان الديني تحولاً إلى الدروشة الدينية، ثار جدل حول أسبابه. كما أرجأ - تخيّلاً - سن التحول إلى أخريات عمره. والحقيقي في مسألة تحوله المعلن إلى الإيمان الديني أنه حدث وهو في سن الخامسة والأربعين عاماً، وأنه كان تحولاً معتدلاً وعقلانياً.
في الأسباب التي ذكرها نجيب محفوظ عن تحول منصور فهمي إلى الإيمان الديني، الذي أسرف في قلبه إلى دروشة دينية، لم يذكر فيها سبباً مشيناً. فالأسباب المشينة، كالانتهازية والمكر والتهريج والدجل، قصرها - تعليلاً - في توجهه السياسي، رغم أن تحوله إلى الإيمان الديني فسِّر عند فئة من النخبة الليبرالية الراديكالية بسبب مشين! وللحديث بقية.