منذ ست سنوات، رافقت صديقاً إلى لقاء عن وساطة روحية أقيمت في كنيسة قديمة تفتقر للبهاء، وجلس فيها نحو 50 شخصاً على مقاعد مرتبة في صفوف. وقيل لكل منا إنه بإمكاننا التواصل مع الأموات. بيد أنني لم أكن أبحث عن إجابات لنفسي، بل أردت أن أساند صديقي. لكن العرافة أشارت إلي، ونطقت بكلمات هزت كياني، "يقول إنه نادم على ما فعله".
ما لم تعلمه العرافة هو أن شريكي الراحل، أليكس، أنهى حياته بشكل مأسوي منذ عامين، في فترة عانى فيها الاكتئاب. وبدا لي فجأة أنني أتلقى اتصالاً روحياً من حب حياتي. لكن، أكان هو بالفعل؟ ضحكت العرافة. وأضافت، "يقول إنه تجاوز تاريخ انتهاء صلاحيته". لقد انتبابني ذهول كبير، إذ ذكرني هذا التصريح كثيراً بتعليقات أليكس التي حملت دوماً في طياتها كثير من الفكاهة السوداء.
سرعان ما عدت إلى وعيي وبدأت أشعر ببعض القلق والتحفظ. والواقع أنني لا أعترض على فكرة الغيب والمحجوب. ففي المدرسة الثانوية، لعبنا كثيراً بألواح "ويجا" Ouija boards، وتعلمت قراءة أوراق الـ"تارو" [لها علاقة بقراءة الطالع والتنجيم]. ولطالما راقني الاعتقاد بأن لدي بصيرة ثانية [بمعنى معرفة الغيب] في بعض الأحيان، لكن من يدري؟ في المقابل، لم أرغب أبداً في التواصل مع أحد أحبائي المتوفين، خصوصاً أليكس. وبالتالي، ما عدت أعرف إن توجب علي أن أشعر بالإثارة أو الخوف، أو حتى الغضب. هل استغباني أحدهم؟
بعد رحيل أليكس، لم أفكر في التوجه إلى وسيط روحي للتواصل معه [أي شريكي الراحل]، لأنني لم أشعر بالحاجة إلى ذلك. وخضعت لجلسات علاج نفسي وتصالحت مع ما جرى. وكذلك، أدى الوقت دور المعالج الأكبر. ومع ذلك، يتوق عدد كبير من الأشخاص الضعفاء والمفجوعين إلى هذا النوع من الرابط الروحي، أو يبحثون عن فرصة للاطلاع على حال أحبائهم، سواء لإعادة التواصل في ما بينهم أو تحقيق السلام [الداخلي في نفوسهم]. لكن الحقيقة هي أن ذلك يجعلهم عرضة للاستغلال من أشخاص محتالين وجشعين.
لم يكن كل ما ذكرته العرافة مقنعاً، إذ صدر عن لسانها خطأ فادح، فذكرت أن أليكس مصر على أننا أنجبنا طفلين معاً، مع أننا في الواقع لم نفعل، ولم ننجب معاً سوى لولا. لكن بعد مرور 18 شهراً، بقي جنين إضافي من عملية تلقيح صناعي أجريناها قبل وفاته، فحملت بابنتي ليبرتي. وبالتالي، سواء أكانت تلك الرسالة إشارة أو لا، فقد دفعتني حتماً إلى التصرف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد تحولت قراءة الغيب إلى تجارة كبرى. وبالنسبة إلى النجوم المشاهير، يكاد العراف يكون بأهمية المدرب الشخصي، فلا يستغنون عنه. وبالفعل، يحكى أن مجموعة متنوعة من النجوم على غرار براد بيت، ولانا ديل ري، وكيري كاتونا، يظهرون شغفاً كبيراً بسماع حكايا من العالم الآخر. ويحكى إن الأميرة ديانا تواصلت بانتظام مع وسطاء روحيين، من بينهم سالي مورغان وسيمون سيمونز، بل أن هذه الأخيرة تدعي أنها على اتصال دائم مع ديانا، حتى يومنا هذا. وصرحت للصحافة في السنوات الأخيرة أنها سمعت الأميرة الراحلة تعبر عن "قلقها بشأن فقدان كيت ميدلتون لكثير من وزنها"، وتؤكد على ضرورة أن يصوت البريطانيون لمصلحة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. فهل يعقل هذا؟
في ذلك الصدد، كشف تقرير صدر في عام 2017 عن أن 22 في المئة من البالغين في الولايات المتحدة سبق أن استشاروا عرافاً أو وسيطاً روحياً، بينما ادعى 38 في المئة منهم أنه سبق لهم أن شعروا بوجود روح [في محيطهم] خلال حياتهم. ويبدو أن النساء أكثر عرضة بكثير من الرجال لاختبار هذه المشاعر، إذ أورد التقرير أن نسبة النساء تكاد تشكل النصف (46 في المئة)، بالمقارنة الرجال الذين يمثلون نسبة 30 في المئة من الأشخاص [الذين تم سؤالهم]. ومع ذلك، أوضح التقرير ذاته أن قرابة نصف البالغين في الولايات المتحدة (47 في المائة) يرون أن معظم الأشخاص الذين يدعون أنهم عرافون أو قراء للغيب، ليسوا سوى محتالين في الواقع.
تفيد وسيطة روحية مقيمة في "نوتينغ هيل غيت" بلندن، بأن التواصل مع الأموات قد يصبح مرهقاً بالفعل، لاسيما حينما يصر زبائنها على نيل أدلة قاطعة حول أحبائهم الذين فارقوا الحياة. وبحسب كلماتها، "في بعض الأحيان، يكون التواصل معهم مستحيلاً، وتكون العملية ضرباً من الحظ، فإما تنجح أو تفشل". وتضيف: "وأحياناً تكون الصلة قوية جداً، حتى أستطيع تجسيد عادات الشخص الراحل أو تصرفاته، أو استقبال رسالة واضحة [منه]. وقد تصدر عنه رسالة تافهة من قبيل 'عرفت أنك اشتريت فستانًا أحمر قبل أيام'، أو تكون رسالة أكثر أهمية. وبالتالي، لا تعرف أبداً [إن كان الاتصال مع الأموات سيحصل أم لا]. ويتوجب عليك الاكتفاء بما تحصل عليه".
في بعض الأحيان، يستحيل التواصل معهم وتغدو العملية كلها كضربة حظ فإما تنجح أو تفشل. وسيطة روحية مقيمة في نوتينغ هيل غيت
إن هذه المعلومات مثيرة فعلاً للدهشة والاستغراب. إذ تتحدث [تلك الوسيطة الروحية] عن التواصل مع الأموات كأنه أمر طبيعي تماماً كتحضير فنجان من الشاي. وتشير إلى إنها حينما لا تنشغل بعملها، تحاول "تفريغ أفكارها"، وتصبح، وفق وقولها، "نائمة البصيرة" clair-vacant. وتشرح أنه "حينما تأتينا الرسائل [من الغيب] على هيئة صور شديدة الوضوح، قد يكون الوضع صعباً، لاسيما إن كان [الشخص الراحل] مات في ظروف مأساوية". ومع ذلك، تدرك [العرافة] بأن موهبتها تساعد الآخرين. وبحسب رأيها، "إنها تسمح للناس بالمضي قدماً، أو تخولهم طي صفحة [مؤلمة] متى كانت هناك قضايا غير محلولة. وتؤكد على وجود حياة بعد الموت، وعلى أن [هؤلاء الأشخاص] سيعاودون الاجتماع بأحبائهم [المتوفين]، وبالتالي، يتسنى لهم أن يباشروا في إعادة بناء حياتهم الخاصة. ولا شك في أن الأشخاص الذين يتلقون رسالة [من الأموات] يشعرون بارتياح كبير، لأنها تمنح الأحياء نفحة حياة جديدة، وتكون [هذه اللحظات] سعيدة، وتبدد الشعور بالحزن بعض الشيء".
في مطلق الأحوال، لست متأكدة حتى من أنني بحاجة إلى وسيطة روحية تضعني على اتصال مع العالم الآخر. ففي أحيان كثيرة، خيل إلي بأنني أشعر بوجود أليكس في شقتي. وفي إحدى المرات، أثناء شروعي بترتيب مجموعة أفلام الـ"دي في دي" العائدة له، عبر [الغرفة] بالون هيليوم بقي من حفلة عيد ميلاد أحد الأطفال، ورسا فوق فيلمه المفضل.
وكذلك، حينما انطفأ ضوء مرآة الحمام واشتعل من تلقاء نفسه ثلاث مرات، رجوته، "من فضلك، لا تظهر ليلاً عند فراشي"! وقد تعرض آخرون [من معارفه] لحوادث مماثلة. وقبل خمس سنوات تقريباً، اهتم ابن عم أليكس برعاية كلبي. ولحظة دخولي إلى شقتي بعد عودتي من إجازة، رأيته شاحب الوجه. وسألته ممازحة، "هل جاء أليكس يزورك؟". وحين أخبرني بما جرى، وبأنه لمح أليكس يعبر الرواق، انهمرت دموعي وأجهشت بالبكاء.
أدرك أن بعض الأشخاص قد يشككون في هذا كله، لكنني صدقت ابن عم أليكس. وتركني ما حصل مع مزيد من الأسئلة، من دون أجوبة عليها. هل هناك فعلاً حياة بعد الموت؟ هل يجب أن أساعد روح أليكس على الانفصال عن أرض الأحياء؟ هل هذا كله مجرد وهم؟ هل فكرة رحيله إلى الأبد صعبة التصديق لدرجة أننا نضطر إلى تجسيده في عقولنا؟
حتى الآن، لم أفهم إن كانت هذه اللحظات وليدة حزننا المشترك. لكن لو كان علي أن أراهن بمالي، لأكدت أن الأشباح موجودة بالفعل. إلى ذلك، لست الشخص الوحيد الذي اختبر ظواهر غريبة من هذا القبيل. ففي وقت سابق من هذا الشهر، كتبت المؤلفة سانتا مونتيفيور في صحيفة "دايلي مايل" عن ظهور شقيقتها الشهيرة، الراحلة تارا بالمر توكينسون المعروفة بلقب "إت-غيرل" It-girl، جالسة على سريرها في إحدى الليالي، بعد مرور ستة أشهر على وفاتها. ودفع ذلك أماندا بلاتيل، وهي كاتبة عمود صحافي، للاعتراف تالياً، بأنها شاهدت شقيقها الأكبر مايكل جالساً على حافة سريرها، بعد مرور نحو 30 عاماً على وفاته.
بنظر أولئك منا الذين يدعون رؤية الأشباح أو التحدث إلى الأموات، من الواضح أنها ظاهرة غير قابلة للتفسير، لكنها واقعية للغاية. ولا شك في أن إخبارنا بأنها أوهام وتصورات من خيالنا ليس سوى إنكار لتجربة عميقة وشخصية. وأنا واثقة من أن عدداً من تجاربي الغريبة مع أليكس، منذ رحيله، قد يكون محض تخيلات، لكنني لا أستطيع أن أنكر أنها تركتني مشوشة التفكير. إن مجرد التفكير في وجود شبح جالس عند طرف سريري يتكفل بجعلي أتخلى عن الأمور الروحية تماماً. وبالنسبة إلي، أفضل أن يعيش أحبائي الذين فارقوا الحياة في قلبي، وليس في غرفة نومي.