السبت المقبل، سوف يدخل تتويج الملك تشارلز الثالث، خلفاً لوالدته الملكة إليزابيث الثانية، سجلات التاريخ كيوم متميز، ليس فحسب داخل المملكة المتحدة، ودول الكومنولث، بل أيضاً على صعيد يتجاوز حدود القارة الأوروبية، ليشمل العالم ككل. ألم يُقل من قبل إن الشمس لم تكن تغيب عن الإمبراطورية البريطانية؟ بلى؛ ثم أتى لاحقاً زمن رَمْي أُناس بين الناس، على امتداد العالم، بريطانيا بأوصاف تنم عن مقاصد شتى. من ذلك، قول بعضهم إنها بلد «يشيخ» بشكل سريع، أو السخرية من شعارها الشهير بإعطائه وصف «الأسد البريطاني العجوز»، أو الإكثار من ترديد القول إن أكثر من نصف سكانها عجائز يعيشون على حساب دافع الضرائب، فيقبضون مخصصاتهم كل أسبوع من نفقة الضمان الاجتماعي و... يعمرون طويلاً.
الواقع أن في بعض ذلك التوصيف للحال البريطاني المعاصر ملامح واقع قائم، والبحث في مظاهره أمر متاح لكل ناظر يمحص أحوال الأمم، ويدرس أسباب تراجع أمجاد ماض تولى. ثم إن الحديث بوضوح تام عن هكذا واقع مسموح، وليس من عائق يحول دونه، ولا توجد قوانين توقع عقوبات بحق من يمارس الانتقاد، بل على العكس من ذلك، هو حديث يُشجَع عليه، فيدلي أهل العلم، وذوو الرأي الوازن، بوجهات نظرهم في أسباب مشكلات المجتمع، وما يطفو على السطح من سلبيات. مع ذلك، ربما يفيد التذكير أن إطلاق أوصاف كتلك على بريطانيا، تحديداً من خارجها، لم يك بريئاً في الأحوال كلها. فقد مورس زعيق كهذا، خصوصاً خلال ستينات، ثم سبعينات، القرن الماضي، من قبل قوى وتكتلات سياسية، وفق هوى سياسي محض، إما بقصد التشكيك المطلق في إمكانية نهوض يعيد الوهج للدور البريطاني، أو بغرض شماتة كانت مجرد اجترار لكلام إنشائي، لم يُسمن هزيل البدن، وما أطعم الفقير الجائع.
مظاهر الجمع بين تحديث أساليب آل وندسور في التعامل مع مقتضيات الواقع المعاصر، والتجديد المتفق مع متطلبات الزمن الحديث، وبين الإبقاء على معظم تقاليد اعتلاء العرش البريطاني، سوف تتجلى بوضوح خلال مراسم التتويج، التي تبدأ منذ السادسة من صباح نهار الأرجح أنه سيكون مشحوناً بتدفق عواطف تجيش بها صدور الغالبية العظمى من شعوب الجزر البريطانية، تجاه الأسرة الملكية. بين تلك المظاهر، التي سيلاحظها ملايين الناس، داخل بريطانيا وخارجها، أن الملك تشارلز الثالث، وقرينته الملكة كاميلا، سوف يستقلان عربة من الماس صُممت في أستراليا عام 2012 خصيصاً لمناسبة اليوبيل الماسي للملكة إليزابيث الثانية، بدلاً من عربتها الذهبية، التي أقلتها يوم تتويجها في السادس من فبراير (شباط) عام 1952، كما استقلها من قبل والدها الملك جورج السادس نهار تُوج في الثاني عشر من مايو (أيار) سنة 1937، بعد تنازل شقيقه الملك إدوارد الثامن نتيجة إصراره على الزواج بواليس سيمبسون، وهي سيدة مجتمع أميركية وقع في غرامها رغم معرفته بوضعها الاجتماعي، إذ في ذلك الزمان، لم يكن مقبولاً أن يتزوج عاهل المملكة المتحدة بامرأة سبق لها الطلاق، وتسعى للطلاق من زواجها الثاني.
العربة الماسية سوف تقل الملك تشارلز والملكة كاميليا من قصر باكنغهام إلى كنيسة ويستمنستر التي شهدت تتويج ملوك بريطانيا منذ العام 1006، وتشارلز الثالث هو الملك الأربعون الذي يُتوج في رواقها التاريخي. لكن مظاهر تحديث نهج الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، ليست تقتصر على مجرد استبدال عربة، بل ثمة الأهم من ذلك كثيراً. خذ، مثلاً، أن تشارلز الثالث أول ملك يرأس الكنيسة الأنجليكانية، ويحضر تتويجه ممثلو الديانات الإبراهيمية الثلاث، ويكون لكل منهم دور خلال المراسم، بعدما كان هكذا حضور مقتصراً في السابق على أسقف كانتربيري. ثانيا، هناك أيضاً التوجيه بأن تبث مراسم التتويج، عبر الإذاعة والتلفزيون، بلغات أسكوتلندا، وويلز، وآيرلندا، إلى جانب الإنجليزية.
تلك جوانب من سمات تحديث تشارلز الثالث لأساليب التاج البريطاني. بيد أن التحديث المهم جداً سوف يتجلَّى بوضوح أكثر من خلال إدارة ملك مثقف، يمتلك تجربة ذات جذور متينة، لشؤون مملكته في الداخل وفي الخارج، مع احترامه لمبدأ أن وزراء حكومته المُنتَخبين هم مَن يدير البلاد، لأنه يبقى فوق مستوى التدخل اليومي بكل صغيرة وكل كبيرة. ضمن هذا السياق، من المُرجح أن تشهد علاقات بريطانيا على الصعيد الدولي تقدماً سوف تتضح أبعاده الإيجابية لاحقاً في مجالات وحقول عدة.