تاريخ "الخبز الأسمر" أيقونة الطعام الصحي

منذ 9 أشهر 121

على رغم ارتفاع سعر "الخبز الأسمر" أمام نظيره الأبيض بعدما بات أيقونة الطعام الصحي، خصوصاً لمرضى السكري وكبار السن، فإنه بالعودة لتاريخه نجده بالأساس اشتهر بكونه خبز الكادحين عبر الزمن، لأن حبة القمح التي يؤخذ منها كانت تطحن مع قشرتها.

ومع التطور أصبح بالإمكان نزع الحبة ذات اللون الذهبي وطحنها بعد إضافة كثير من الملونات والمنكهات. ومع الوقت فقد الخبز الأبيض صفته الصحية، بينما ظل الأسمر أيقونة للصحة على رغم تضاؤل وجوده شيئاً فشيئاً.

وإذا دخلت اليوم مخبزاً حديثاً فإنك ستلاحظ وجود أكوام من الرغيف الأبيض وبقية المخبوزات التي تتميز بألوانها ونكهاتها المتعددة، في مقابل وجود رمزي للرغيف الأسمر، كتعبير مباشر عن تغير عاداتنا الصحية والغذائية مع الوقت.

قيمة غذائية عالية

وحبوب القمح التي يؤخذ منها الرغيف الأسمر قبل الوصول إلى المطاحن والمخابز غنية بالمواد الغذائية، وللأسف تقل أهميتها بعد إضافة كمية كبيرة من السكر والمنكهات والملونات إلى الرغيف الأبيض.

ويصبح الرغيف الذي انتشرت أسطورته عبر مراحل تاريخية بشرية تعود لآلاف السنين أقرب إلى الحلويات منه إلى تلك المادة النقية الصحية المغذية التي تناولها الإنسان قديماً بوصفها وجبة غذائية متكاملة، وكما هو الحال مع ملايين الفقراء في التاريخ البشري، إذ إن الفقراء يتميزون عن غيرهم من الناس بتناول رغيف الخبز وحده دون طعام إضافي.

اكتشاف الخبز الأسمر

تؤكد مصادر عديدة منها الموسوعة العلمية العربية والأوروبية أن اكتشاف الخبز من قبل الإنسان كان مجرد صدفة، وأنه حدث قبل ملايين السنين، لكن أقرب أثر وجد له كان في منطقة من الأردن، كما وجدت آثار للخبز في مصر وفلسطين، لذلك تعد هذه المنطقة القديمة تاريخياً التي تقع حاليا ضمن الشرق الأوسط، موطن الرغيف الطبيعي.

وتقول المصادر ذاتها إن الفراعنة كانوا أشهر من تعاملوا مع الخبز القديم المستخرج من القمح، وهو تعبير يعني الرغيف الاسمر أيضاً، بل إن عالم الآثار المصري زاهي حواس أكد وجود آثار مخابز في مناطق بناء الأهرام وأبو الهول القديمة، وكان العمال المصريون القدماء يتقاضون أجرة لعملهم على صورة أرغفة الخبز السمراء، لذلك سمي رغيف (العيش).

من جهة أخرى تأخرت معرفة اليونان لهذا الاختراع الذي بدأ من خلال أدوات بدائية منها الحجر الذي كان يدق فيه القمح يدوياً قبل اختراع الرحى، إذ غزت هذه الأداة جميع البيوت قبل معرفة الطاحونة الهوائية، ومن ثم الوصول إلى الآلة الحديثة.

الرغيف والطبقة

على رغم كل ذلك ظل الرغيف رمزاً للطبقية لفترة طويلة، وأيضاً ضمن صيغته الصحية، إذ قام الناس قديماً بإضافة لمسات صغيرة لهذا المنجز البشري، تعلقت بالصورة وخلط الحبوب وتحسين القوام، لكن دون المساس بجوهر المادة السمراء، ودون إضافة أي مواد جانبية، بما في ذلك السكر والخميرة والملونات التي تعد إضافات شكلية لرغيف الخبز الأسمر، لا أكثر.

الرغيف العجيب

في زمن الصورة، فترة البرامج التلفزيونية التقليدية، عبرت المخيلة اليابانية الحديثة عن حكاية الرغيف بوصفه مخلوقاً فضائياً. وجاء ذلك ضمن أنيمي رسوم متحركة قديمة انتشرت في اليابان والعالم العربي فترة الثمانينيات من القرن الماضي تحت عنوان "الرغيف العجيب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتأتي "ولادة" الرغيف العجيب بعد مخاض طويل وعسير. وفي بداية الأنيمي يشعر الخباز الياباني، عم الفتاة الصغيرة "لولو"، بعدم الرضا عن منتجه، وتساعده الفتاة الصغيرة لينتجا معاً الرغيف الذي يستغرق صنعه من الصباح الباكر، وحتى أول ساعات الليل، ثم بعد وضع الرغيف في الفرن، تقوم مجموعة من النجوم من الفضاء الخارجي بالمساهمة في صناعته، إذ تنطلق باتجاه الأرض عابرة مجرات عدة لتدخل إلى الفرن في تلك القرية الصغيرة من مدخنة المنزل.

ولادة نجم صغير

وخلال خبز الرغيف تسأل الفتاة عمها إذا ما كانت النجوم تتكلم، فيؤكد لها ذلك، وبعد ارتجاج الفرن والمنزل والقرية كلها بصورة مخيفة ومفزعة يخرج الرغيف على هيئة طفل ناطق قادر على الطيران. وتستمر حكاية الرغيف وفق الأنيمي الياباني الذي عرض سنة 1988، وصولاً إلى اللحظة التي ينقذ فيها الرغيف الطائر العجيب حياة العم الطيب.

يذكر أن الأنيمي الذي يعد الأكثر شعبية في اليابان، وفق إحصاءات أجرتها شركة "بانداي" البريطانية في 2005، ربط بصورة مباشرة وذكية بين ولادة الرغيف وصحة الإنسان، إذ يسعى "قط البكتيريا" باستمرار للنيل من الرغيف العجيب وتلويثه.

الخبز والسينما

لم يكن الرغيف قديماً كما هو الآن، أبيض ناصعاً ومقرمشاً يذوب في الأفواه بسرعة، ويترك أثر مذاقه اللذيذ على اللسان، بل إن الرغيف الأسمر عرف طوال الفترة الزمنية القديمة من حياة الإنسان عموماً، والمصري خصوصاً بكونه رغيفاً خشناً يسبب أحياناً آلام الأسنان، وتعود جذور هذه الأسطورة الشعبية المتداولة في السينما المصرية بكثرة حتى يومنا هذا إلى كون المخابز قديماً لم تكن متطورة.

الخبز والسياسة

ارتبطت أشهر الثورات الحديثة بالرغيف، ولعل أشهرها على الإطلاق الثورة الفرنسية التي كرست خلالها ملكة فرنسا زوجة لويس السادس عشر ماري أنطوانيت مقولتها الشهيرة، "إن لم يجدوا خبزاً فليأكلوا البسكويت"، وتنم هذه المقولة عن عدم معرفة الطبقة البرجوازية بأحوال الناس الفقراء الذين لا يتمكنون من الحصول على أبسط الأغذية التي عرفها تاريخ الإنسان، وهو الخبز الحاف.

ومن الملاحظ أنه في تلك الفترة "العصور الوسطى" لم يكن هناك فارق كبير بين الرغيف الأسمر والأبيض. ولم يكن الهاجس الصحي هو الأهم، خصوصاً لدى الجياع. فالخوف من الإصابة بأمراض مثل السكري أو السمنة وبقية أمراض الخبز الأبيض والحلويات، لم يكن متفشياً كما هو الآن.

اليونان

مع أن الرغيف الأسمر تأخر حتى وصل إلى بلاد الإغريق، التي كانت عصب الحضارة النابض قديماً، إلا أنه تحول في ظل فلسفتهم إلى رمز من رموز الديمقراطية، إذ تبنى أسطورته الحكيم الإغريقي سولون (640-560 ق.م)، وهو واحد من حكماء الإغريق السبعة، الذين يعود لهم الفضل في سن قوانين اجتماعية متعلقة بثورات الجياع، بعد حرب أهلية خاضها الفقراء ضد طبقة الملاك، وسمي القانون الذي نتج من تلك الثورة ومهد لمشاركة الفقراء بصورة أوسع في نظام الحكم بـ"قانون سولون".

أخيراً، اعتمد الحكيم الإغريقي في بناء تلك القوانين على أسطورة دينية إغريقية قديمة، تبين أهمية الرغيف لدى الشعب اليوناني الذي يعد اليوم واحداً من أشهر شعوب العالم في إنتاج المخبوزات اللذيذة بجميع صورها. وتقول تلك الأسطورة الدينية اليونانية القديمة إن آلهة الطبيعة والنبات والفلاحة (ديمتر) إذا غضبت، فإنها تفقد التربة خصوبتها، وينقطع بذلك القمح ورغيف الخبز بكل أنواعه.