بين توسع الأزهري وضيق العظمة بالمنوال الأزهري

منذ 8 أشهر 80

شاع في مصر، في المنتصف الأول من القرن الماضي، تقسيم الأدباء إلى شيوخ الأدب المصري وإلى شبّانه.

فلنلقِ قليلاً من الضوء على هذا التقسيم.

هذا التقسيم له أصل مختلف في معناه عن المعنى الذي شاع استعماله بين الأدباء في مصر في المنتصف الأول من القرن الماضي.

في مدخل كتاب «في الأدب الجاهلي»، الصادر عام 1927 – وهي الطبعة المنقّحة، حذفاً وإضافة، لكتاب «في الشعر الجاهلي» الصادر عام 1926 - المعنون بـ«الأدب وتاريخه»، استعمل طه حسين تعبير «شيوخ الأدب في مصر»، إزاء أساتذة اللغة العربية وآدابها في «مدرسة دار العلوم»، وإزاء المتخرجين فيها الذين يعملون معلمين في مدارس التعليم الحكومي؛ فهو رأى أن أساتذة تلك المدرسة غير مؤهلين لتدريس اللغة العربية وآدابها، ولا لإعداد المعلمين - وإعداد المعلمين هو الغرض الذي من أجله أُنشئت «مدرسة دار المعلمين» منذ عام 1872 - لجهلهم (حسبما سوّغ طه حسين) باللغات السامية وآدابها، وباللغتين اليونانية واللاتينية وآدابهما، وباللغات الإسلامية وآدابها، وباللغات الأوروبية الحديثة وآدابها.

ويضيف إلى هذا العيب - وهو اقتصار معرفتهم على اللغة العربية وعلى آدابها - عيباً آخر، وهي أن هذه المعرفة محدودة، تفتقر إلى الثقافة المتينة الواسعة التي يقوم عليها كل بحث منتج. وأتى بمثال يقوّي فيها ملحوظته هذه فقال: «كان الجاحظ أديباً؛ لأنه كان مثقفاً قبل أن يكون لغوياً أو بيانياً أو كاتباً. وليس من شك في أن الجاحظ وأمثاله من الأدباء في بغداد والبصرة والكوفة وغيرها من أمصار المسلمين كانوا - إبان العصر العباسي - يتقنون قديمهم من لغة وأدب وفقه وحديث ورواية، وكانوا إلى إتقان هذا كله يحسنون الجديد، ويتصرفون في كثير من فنونه: كانوا يحسنون فلسفة اليونان وعلومهم، وسياسة الفرس، وحكمة الهند، وكانوا يحسنون التاريخ وتقويم البلدان، كانوا يأخذون من كل شيء بطرف، فكانوا أدباء وكانوا كتّاباً، واستطاعوا أن يتركوا لنا هذا التراث الخالد».

في مدخل كتابه هذا، حمل على «مدرسة العلوم»، مطالباً وزارة المعارف بإلغائها، والاكتفاء بـ«مدرسة المعلمين العليا» و«الجامعة المصرية»، فهما القادرتان (من وجهة نظره) على الإيفاء بمتطلبات خدمة اللغة العربية، لاتصالهما المتين بالحياة العلمية الأوروبية وبالأدب الأوروبي، مع اشتراطه أن يتبعا في تدريس الأدب العربي منهج «الجامعة المصرية القديمة».

وفي صَدْر المدخل كان قد أعلمَنا أن هذا المنهج الذي يجمع ما بين مذهب نقاد الأدب العربي القدامى ومذهب الأوروبيين قد تغير بسبب العسر المالي الذي فرضته على مصر قيام الحرب العالمية الأولى. وكان في صدر هذا المدخل رفض رفضاً قاطعاً استمرار مذهب في التعليم صنّفه بأنه مذهب ثالث في التعليم (المذهب الأول مذهب نقاد الأدب العربي القدماء، والمذهب الثاني مذهب الأوروبيين). هذا المذهب الثالث في التعليم (كما لاحظ) قائم في «مدرسة القضاء الشرعي» وفي «مدرسة دار العلوم» وفي المدارس الثانوية. وذمّه بأنه مذهب مشوّه رديء، لا يأخذ بحظ من أسلوب القدماء في النقد ولا من أسلوب المحدثين في البحث.

«مدرسة المعلمين العليا»، مثلها مثل «مدرسة دار العلوم»، لها تاريخ طويل؛ فقد أُنشئت عام 1880، ومثلها في تغيُّر اسمها، فقد سُميت بـ«مدرسة المعلمين العليا» عام 1923. وبعد إنشاء «معهد التربية العالي» عام 1929، أُلغيت «مدرسة المعلمين العليا» عام 1931.

أستخلص من كلام طه حسين الذي فيه كثير من الإسراف والشطط المثالي حول متطلبات إعداد معلمي اللغة العربية وآدابها، أن استعماله تعبير «شيوخ الأدب في مصر» لم يكن فيه تقسيم عمري أو تقسيم جيلي، فهؤلاء «الشيوخ» الذين هاجمهم في كلامه هم من كبار السن ومن متوسطيه وصغاره؛ فهو استعمل هذه الصفة في تعبيره استعمالاً أزهرياً. فالاستعمال الأزهري للقب «شيخ» و«مشايخ» فيه سعة وتوسُّع. فالأستاذ في جامع الأزهر من زمن بعيد، وإن ارتفعت سنّه، يخاطب طلابه أثناء إلقائه الدرس عليهم بلقب: «يا مشايخ»، ويخاطب الواحد منهم بـ«يا شيخ فلان». وقد استمرت هذه السُّنّة أو الطريقة في السعة والتوسع في استعمال لقب «شيخ» و«مشايخ» بعد أن تحول «الأزهر» من «جامع» إلى «جامعة». وأحسب أن الأساتذة الأزاهرة ما زالوا محافظين عليها. إن إطلاق طه حسين صفة «شيوخ» في تعبيره لم يكن فيه أي تقدير وتبجيل لهم؛ فهم (كما قدمهم) حفنة من المعلمين الرديئين، لمحدودية معرفتهم وفقر ثقافتهم بالتراث وعلومه، وبالآداب الأوروبية الحديثة، وبتراثها اليوناني واللاتيني، وبالمناهج الغربية الحديثة.

وبعد سنوات من صدور كتاب «في الأدب الجاهلي» لطه حسين، برز تقسيم الأدباء في مصر إلى شيوخ في الأدب المصري وإلى شبان فيه. وحمل هذا التقسيم معنى عمرياً ومعنى جيلياً. واختلط هذان المعنيان بارتفاع المنزلة الأدبية للذين يُطلَق عليهم لقب «شيوخ الأدب المصري»، كطه حسين وعباس محمود العقاد وأحمد عبد القادر المازني ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى، وانصرف استعمال هذا اللقب إلى المجددين أو رؤوس التجديد في الأدب العربي بمصر.

وكان مارون عبود في لبنان معترضاً على تسمية هذا الأدب بـ«الأدب المصري» لدى متزعميه، وهي الأسماء السالفة. ففي مقاله «أشياخ الأدب في مصر»، نبّه ساخراً إلى أن «الأدب المصري» ما هو إلا «أدب عربي بلحمه وعظمه، ولا أشبهه إلا بالماء المتلوّن بلون الإناء».

وبعد حين، افتعل بعض شبّان الأدب المصري أو الأدب في مصر صراعاً مع جيل الشيوخ أو رؤوس التجديد الأدبي.

قصدت بهذه الإضاءة التاريخية أن تكون مدخلاً لاستكمال ملحوظاتي النقدية على كلام محمد مندور (راجع النص الكامل لكلامه في مقالي: «سطو متأخر على صديق حميم!»)، التي بدأتها في المقال السابق:

مع أن أعمار توفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل وعباس محمود العقاد تتراوح ما بين الثمانية والثلاثين والخمسة والأربعين والخمسين عاماً، كما بيّنا ذلك في المقال السابق، حين كتبوا في سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، فإن محمد مندور في كلامه صوّرهم بالطاعنين في السن. وساعده على هذا الإيهام تقسيم الأدباء في مصر إلى أدباء شيوخ وإلى أدباء شبان، الذي كان يفتقر إلى ضابط عمري دقيق بين الشيوخ في السن وبين الشبان في السن. كلام مندور الذي أغرقه رجاء النقاش بالإطراء، الفكرة فيه ترددت بين إقدام، تلاه نكوص، في حين أن لويس عوض في كلامه الذي سطا فيه على فكرة مندور كان حاسماً وقاطعاً في التعبير عنه، من دون لجلجة ومن دون تلعثم.

يقول رجاء النقاش في رده على انتقاد لويس عوض لتحول محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد إلى الكتابة في الإسلاميات: «والحقيقة أن رأي الدكتور لويس عوض في هذه القضية رأي شائع بين كثيرين من المثقفين، وإن كان الدكتور هو أشجع الجميع في إعلانه والتصريح به. ولذلك فإن مناقشة هذا الرأي بالتفصيل أمر ضروري خاصة أنني أعتقد أن هذا الرأي ليس صحيحاً، وأن البحث العلمي الدقيق سوف يثبت خطأ هذا الرأي وابتعاده الكامل عن الصواب».

يقصد رجاء النقاش بالرأي الشائع، الرأي المنتشر شفاهة (لا كتابة) على ألسنة المثقفين الذين عايشهم منذ منتصف القرن الماضي.

لكن محمد مندور سبق لويس عوض في الإعلان عنه والتصريح به في مقاله، «الأدب المصري المعاصر»، المنشور ضمن كتابه، «في الميزان الجديد»، الصادر عام 1947.

وهذا المقال كان قد نُشِر في مجلة «الثقافة»، في 30 يونيو (حزيران) 1942، تحت عنوان «في الميزان الجديد»، وهو العنوان نفسه الذي صار عنواناً جامعاً لمقالاته التي نشرها في كتاب بعد 5 سنوات.

الفارق بين المقال المنشور في المجلة والمقال المنشور في الكتاب، تعديل وحذف.

في المقال المنشور في المجلة، قال: «بل وبقلبي من اليقظة ما يبصرني بأن للحياة المادية على حقارتها قسوة كثيراً ما تلين أصلب العزم».

وفي المقال المنشور في الكتاب، قال: «وبالنفس من اليقظة ما يبصرنا بأن للحياة المادية قسوة كثيراً ما تلين أصعب العزم». ونرى هنا تعديلاً في الصياغة.

في المقال المنشور في المجلة، قال: «ولكن ثمة أمر لا شك فيه، وهو أننا قد وصلنا من التزمت إلى حدّ نبرئ منه كل الأديان على السواء».

وفي المقال المنشور بالكتاب، قال: «ولكن ثمة أمر لا شك فيه، هو أننا قد وصلنا إلى درجة من التزمت»، ونرى هنا تعديلاً في الصياغة وحذف جملة.

كما أن لويس عوض قبل أن يقول رأيه الانتقادي في تلك القضية في سيرته الذاتية «أوراق العمر: سنوات التكوين»، الصادرة في 1989، كان قد قاله في محاضرته الأميركية «التطور الثقافي في مصر منذ 1952»، التي ألقاها عام 1971، وهي المحاضرة التي ما زلت أسلّط الضوء عليها وعلى ما قاله نقادها في مجلة «الآداب».

اعتبار تحول طه حسين ومحمد حسين هيكل وسواهما من مثقفي الليبرالية في العشرينات والثلاثينات والأربعينات إلى الكتابة في الإسلاميات، تراجعاً أو نكوصاً أو ردّة، قضية شائعة في كتابات المثقفين العرب الراديكاليين في التحديث الفكري. وسأنتقي نصاً من هذه النصوص:

في صدر مراجعته النقدية لكتاب برهان غليون «اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية»، يقول عزيز العظمة: «من السمات الهامة والمعطلة للخطاب السياسي والثقافي العربي الحديث وللفكر العربي الحديث والمعاصر بعامة، التراجع التكتيكي أو الأصيل أمام دعاوى (الأصالة) بمعانيها الأعم؛ فها هو طه حسين لا يتراجع عن نتائج علمية لأعماله. بل يتمادى في الكتابة باتجاه يشدد على أصالة الإسلام في أمور الثقافة والمجتمع وإسلامٍ أسّس أمور الثقافة والمجتمع. وها هو زكي نجيب محمود ممثلاً لليبرالية، وحسين مروة ممثلاً للماركسية الرسمية ينسجان على منوال أزهري الأسس، إسلامي إصلاحي التوجه. ويريان في ماضينا العربي والإسلامي عناصر من عقلانية اليوم أو من فكرة وثورية وجهته في الحالتين، لدى زكي نجيب محمود كما عند حسين مروة، والكثير غيرهما ممن ينخرط في الاتجاه الخطابي السائد في الثقافة العربية، يتخذ من هذه التوفيقية صواناً للتأكيد على عدم غربة العقلانية أو التقدم أو الثورية أو الصراع الطبقي عن تاريخنا، وبالتالي عن يومنا».

هذه المراجعة النقدية منشورة في مجلة «دراسات عربية»، السنة الثالثة والعشرون، العدد 1، نوفمبر (تشرين الثاني)، 1986. وقد تضمن هذا العدد ردّاً لصاحب الكتاب المنقود، برهان غليون، تحت عنوان «اغتيال العقل مشخصاً». وللحديث بقية.