بريطانيا... زوابع تغيير التاريخ

منذ 1 سنة 191

إحصائية لمعهد المكتبات العامة وخدمة المعلومات في المملكة المتحدة، بينت أن ثلث رواد المكتبات العامة طلبوا إزالة بعض الكتب من على الأرفف، أو «شطب» عبارات منها. الخبر سبب لي انزعاجاً ولعدد كبير من المثقفين والقائمين على التعليم (أكثرهم يعبر عن القلق في جلسات مغلقة لا علناً).
نوعية الكتب المطلوب «رقابتها» وراءها الشكوى من العنصرية، خصوصاً من القراء السود، والكتب عن تجارة العبيد وتاريخ الإمبراطورية البريطانية، وكتب أدبية عدَّ البعض كلماتها «مهينة»، أو تتناول الحبكة أو الدراسة أحداثاً وشخصيات دينية، (خصوصاً أقليات عرقية)، بينما نسبة المعترضين من الإنجليكيين (الديانة الرسمية للتاج البريطاني) دون واحد في المائة؛ أكثر الاعتراضات من المثليين والمتحولين جنسياً والمهووسين بالبيئة، باختصار من المتحمسين لقضايا اليسار الليبرالي في السنوات الأخيرة.
سبب انزعاج الكتاب من جيلي أننا اكتسبنا الإطار الثقافي المعرفي قبل ظهور التلفزيون والكومبيوتر، وكان منهلنا الأساسي المكتبات العامة (البيبلوتيك) لاستعارة الكتب مجاناً وليس محلات بيع الكتب؛ ففي طفولتي وسنوات الدراسة الابتدائية كانت الاستعارة من مكتبة البلدية في شارع منشا في الإسكندرية أو المعهد الفرنسي، أو المعهد البريطاني (المجلس البريطاني لاحقاً) في شارع فؤاد، نشاطاً مكملاً لحصص المدرسة، ولا تزال في سنوات خريف العمر الاستعارة من المكتبات البريطانية، أو القراءة في قاعاتها، جزءاً أساسياً من البحث المعلوماتي.
مصدر الإزعاج لأبناء جيلي أن المحتجين لا يكتفون بالرقابة على ما ينشر اليوم، بل رقابة بأثر رجعي بإعادة صياغة أعمال صدرت منذ عقود.
كلاسيكيات كروايات أغاثا كريستي (1890 - 1976)، ورولد داهل (1916 - 1990)، ومؤلف «جيمس بوند» أيان فلمنغ (1908 - 1964)، وكاتبة روايات الأطفال الكلاسيكية إينيد بليتون (1897 - 1968) وعشرات غيرهم، تعيد كثير من دور النشر تحريرها لإزالة صفات مثل «بدين» أو «دميمة»، أو تغيير أحداث التاريخ لتوافق رؤية العالم بعيون أصحاب أصوات الاحتجاج العالية من الجيل الأصغر من نسويات، وناشطي البيئة، و«ثوار» حقوق الحيوان، والنشطاء السود، (بدورهم أصبحوا عنصريين في تقزيمهم الثقافات والعرقيات الأخرى أو سطوها على حضارات الآخرين). وسيطرة هؤلاء على صناعة الرأي العام، ومناهج الدراسة، تفسر إبقاء الكثيرين اعتراضهم على الظاهرة في جلسات خاصة، ودوائر نقاش مغلقة خشية أن يتعرضوا للمقاطعة والمنع من النشر إذا جاهروا بإدانتها.
المخيف في الرقابة بأثر رجعي ليس مجرد تنامي قائمة سوداء من الكلمات والعبارات وأحداث تاريخية تتعرض للشطب أو التغيير في إصدارات جديدة للكلاسيكيات، بل التجاء دور النشر لبرامج الذكاء الصناعي، ليس فقط للتوفير الاقتصادي، بل لسهولة برمجتها لإعادة التحرير. وهذا قد يهدد قدراً كبيراً من التراث المعرفي الإنساني بالضياع للأبد.
فالإحصائية تزامنت مع قلق أطباء أعصاب (في خطاب مفتوح نشروه قبل أيام يناشدون مشرعي القوانين ومبرمجي الذكاء الصناعي) من إمكانية تطوير برامج الذكاء الصناعي لوعي، يتحول بدوره إلى إدراك.
فالوعي بمعنى وجود قدرة تخزين معلوماتية، وعملية التعرف عليها والإدراك بقدرة المخ الإنساني على الإحساس بما حوله في تعريف أطباء المخ والأعصاب. فالإنسان النائم مثلاً غير قادر على الإدراك، لكنه لم يفقد ذكاءه ولم يفقد وعيه، بدليل أنه يحلم (سواء تذكر تفاصيل الحلم أم لا). ومدارس السيكولوجية للتحليل النفسي المتطورة عن أعمال سيغموند فرويد (1856 - 1939) ترى في الأحلام تفسيرات لأعراض مرضية، وتساعد في العلاج في جلسات التحليل النفسي، بينما يراها أطباء الأعصاب مرحلةً لتنظيف مخزون أو ذاكرة المخ مثل عملية «إزالة» في الكومبيوتر. وعندما يستيقظ الإنسان يعود إليه الإدراك بما حوله. ويتساءل أطباء المخ والأعصاب ما إذا كان نمو الوعي – ويتوقعون حدوثه – لدى برامج الذكاء الصناعي، سيؤدي، في طفرة مفاجئة، إلى إدراك ما يدور حولها، ويجعل البرامج تستقل عن خالقها ببرمجة ذاتية خارج سيطرة الإنسان، كما تحذر أفلام الخيال العلمي «كانا - روبوت» إنتاج شركة «فوكس» للقرن العشرين عام 2004 عن قصة صدرت 1950 للكاتب الأميركي وأستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة بوسطن، إيزاك أسيموف (1920 - 1992) عن تصور مستقبلي للروبوت (الإنسان الآلي). الكلمة نفسها اخترعها الكاتب التشيكي كارل تشابيك (1890 - 1938) عام 1920 في مسرحيته «روسيوموفي يونيفرزاليني روبوتي» (روبوتات روسيوم العالمية). ومثل رواية أسيموف، فيلم هوليوود يظهر ربوتات تطور وعياً يشبه الإنساني - وروبوت واحد فقط طيب يحاول التحذير من شفرة شريرة في برمجة آلاف الروبوتات العاملة في خدمة الناس، لكنها طورت الإدراك بفساد الإنسان فتريد التخلص من البشر.
فماذا إذا تطور وعي برامج الذكاء الصناعي في المكتبات ودور النشر إلى تجاوز قائمة المبرمجين، فيتجه مباشرة بإدراك لعواطف المحتجين ويكرر «ديليت» أو تبديل مخزون التراث الإنساني بلا توقف، كرواية «1984» الديستوبية وبطلها التراجيدي وينستون سميث يغير يومياً الأرشيف القومي لتلائم أحداث الماضي آيديولوجية الحاضر وتضيع ذاكرة الأمة، في عبارته الشهيرة «السجلات زورت، والكتب أعيد تحريرها، واللوحات أعيد رسمها؛ وكل تمثال وشارع وميدان تغيرت أسماؤها، وكل تواريخ الأحداث تغيرت. التاريخ تجمد لأننا نعيش في الحاضر فقط. كما صوره الحزب الحاكم».