بريد السودان... مراسيل بـ"طابع" الاستعمار والحداثة

منذ 1 سنة 166

ارتبط البريد في أذهان السودانيين بالحنين إلى الماضي لدرجة أن آداباً وفنوناً تشكلت من هذه العلاقة، فظهرت ألحان راسخة مع الزمن عبر عنها مغنون شهيرون.

هذا الارتباط العاطفي لا يخلو من أبعاد سياسية واقتصادية وعواصف من التحديث اجتاحت هذا القطاع، حتى تحولت مصلحة البريد والبرق ذات التاريخ العريق إلى مؤسسة حديثة تسمى الآن "سودابوست".

حقبة زاهرة

يعد قطاع البريد والبرق من أهم هيئات العمل الخدمي في السودان وبدأ بمسمى "التلغراف الحربي" عام 1858، وكان أول مكتب في البلاد هو "بريد سواكن" بأختام وطوابع تركية، وفي 1858 تم تحويل البريد إلى مصلحة مدنية وصدر أول طابع بريد سوداني (طابع الجمل) للتخليص في 1898، في حين صدر مطلع 1910 أول قانون ينظم الخدمة.

أنشئت مصلحة البريد والبرق والهاتف عام 1919 لتقوم بمهماتها على أكمل وجه، في وقت اهتم السودان بالانضمام إلى اتحادات البريد العربية والعالمية وكذلك الاتحاد الأفريقي، وأصبح ضمن منظومة الاتحاد العالمي عام 1956.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يقول مساعد مدير إدارة البريد والبرق السابق خالد محمد أحمد الجريف "نشأ البريد في السودان إبان العهد التركي بافتتاح أول مكتب في مدينة سواكن بشرق البلاد عام 1858، وانتشرت المكاتب البرقية في الخرطوم وبربر وكسلا وغيرها، وخلال تلك الحقبة ظهرت خطوط التلغراف قبل قطعها في عهد الثورة المهدية، وكان العمل بدائياً عبر سعاة البريد الذين يسعون بالجمال والدواب والثيران إلى توصيل البرقيات والبضائع والمستندات والطرود إلى المدن الأخرى، وتم التوثيق لذلك بـ’طابع الجمل‘، وهو أول طابع بريد لتخليص الرسائل في السودان".

ويتابع "بعد انتهاء العهد التركي ودولة المهدية، أعاد الإنجليز غزو البلاد عبر وادي حلفا وبتقدمهم نحو الداخل كانوا يمدون خطوط السكة الحديد وإلى جانبها أعمدة التلغراف لتأتي نشأة البريد والبرق على النمط الملكي لخدمة أغراض الجيش الغازي، ولاحقاً عملت المملكة المتحدة على تقديم الخدمة للمواطنين حتى صارت من أوائل مرافق الخدمة المدنية لتذليل سبل الاتصال والتواصل بين الناس والمدن، واختاروا للعمل أكفأ الموظفين من خريجي كلية ’غردون‘ التذكارية، وتم تأسيس مدرسة البوستة والتلغراف لتخريج كادر متميز وتقديم خدمة نوعية، وقبل الاستقلال عام 1956 أسس الإنجليز خدمة بريدية وبرقية متطورة بحسب مقاييس هذا الزمان".

أدوار مهمة

يوضح الجريف أن "البريد لعب دوراً كبيراً ومؤثراً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، إلى جانب تطوير وتغيير أنماط الحياة بتبادل الرسائل والخطابات والطرود والمطبوعات والبرقيات والحوالات وغيرها من الخدمات، وتلا ذلك توحد الدول العربية في اتحاد البريد تحت إشراف جامعة الدول العربية لتطوير المهنة عبر تعزيز الصلات وتبادل الخبرات ونقل التجارب، وتوجت الجهود بإنشاء معهد البريد الذي تم تطويره إلى كلية البريد ومقرها في مدينة دمشق السورية".

بريد-3.jpg

ويتابع "عمل السودان بنظام الإعارة وانتداب الخبراء والموظفين ليواكب الطفرات والمتغيرات في هذا المجال وحققت التجربة نجاحات كبيرة في الدول الأفريقية وعمل موظفونا بكفاءة مهنية عالية نالت التقدير والاحترام".

تراجع مريع

على شارع جامعة الخرطوم يطل مبنى البريد المشيد من الحجر الرملي منذ بدايات القرن الماضي بطراز يعكس سطوة المستعمر الإنجليزي، لكنه كغيره من مكاتب الهيئة في مدن السودان المختلفة لم يغشاه الناس منذ عقود طويلة وأصبحت المباني التي كانت تقدم هذه الخدمة يسكنها الصدى ولم يتبق منها سوى لافتات حديدية وأخرى خشبية تقاوم النسيان وذكريات يجترها المخضرمون من الأجيال التي عاصرت تلك الحقبة الزاهرة.

تراجع عمل البريد في البلاد على إثر سياسة الخصخصة عام 2009، وعن هذه الخطوة يبين الجريف أن البريد السوداني "افتقد الإرادة السياسية لفهم طبيعة عمله ودوره وتطويره، كما أن التقنية الحديثة جعلت الرسائل التي كانت تستغرق أشهراً عدة في الوصول إلى هدفها يتم إرسالها في لمح البصر، الأمر الذي ألقى على عاتق إدارة البريد عبء مواكبة العصر".

بريد-4.jpg

تطور نظام البريد في السودان في الفترة الحالية معتمداً بشكل رئيس على التقنيات المتقدمة، وعن ذلك يقول مدير إدارة التسويق والمبيعات بالشركة السودانية للخدمات البريدية المحدودة (سودابوست) أبو بكر محمد عبدالله الفكي "آلت مسؤولية تقديم الخدمات إلى الشركة عام 2009 وأصبحت المشغل العمومي للخدمات الشمولية بعد خصخصة الهيئة العامة للبريد والبرق وأسهمت في التطوير عبر تحديث المعدات وتوسعة شبكات الإنترنت للنوافذ البريدية وأنظمة العمل، علاوة على تفعيل نظام الخدمات البريدية العالمي (IPS) ونظام الحوالات المالية الخارجية (IFS) ونظام الإقرارات الجمركية (CDS) الذي يسمح بتبادل البيانات مع جميع الدول مسبقاً".

وفي إطار الشمول المالي قامت "سودابوست"، بحسب الفكي، بعمل شراكات مع البنوك لتقديم الخدمات نيابة عنها واستخدام وسائل الدفع الإلكتروني إلى جانب تقديم الخدمات المالية البريدية، وأسهمت الشركة في إكمال وسائل التنمية المستدامة والشبكة اللوجستية التي يوفرها البريد عالمياً لنقل البضائع، لتواكب بذلك التجارة الإلكترونية ونقل الأدوية والمعدات إلى جميع ولايات السودان ومدنه، إضافة إلى خدمات الحكومة الإلكترونية عبر توصيل الجوازات والمستندات الخاصة بالمعاملات وشراكات الاتصالات.

ثقافة وفن

مدير مكتب بريد أم درمان السابق سيد مكي عبدالرحمن قيلي أشار إلى أن "البريد اتصل بحمل الرسائل، وكانت الوسيلة وقتها هي الدواب مثل الإبل أو الحمير والأحصنة، ثم تطور لاحقاً بإدخال التلغراف واللاسلكي، وتوسع العمل ودخلت خدمة بنك التوفير، وكانت البوسطة هي الرائدة في هذا القطاع قبل أن يعرف الناس البنوك ونظام الحوالات التي ترسل بمظاريف البريد المسجل لضمان وصولها إلى الجهة المعينة، وتهتم خدمة البريد السريع بتوصيل جميع الطرود بخلاف المواد السائلة أو السلاح، وتم افتتاح مكاتب اللاسلكي بكل سفارات السودان في الخارج، وكان ينتدب لها موظفون من وزارة الخارجية ويستمر عمل الموظف دورة واحدة لأربعة أعوام".

وختم قيلي بالقول "ارتبط البريد والبرق بالثقافة والفن، وعمل في هذه الهيئة الفنان خليل فرح والشعراء محمد يوسف موسى ومصطفى سند وعبدالله النجيب وإبراهيم الرشيد".