برقية سرية عن اتجاه العلاقات الأميركية ـــ الروسية

منذ 8 ساعة 16

كان ذلك في مارس (آذار) 1994، بعد أكثر من سنتين من تفكك الاتحاد السوفياتي، وكانت المناقشات داخل السفارة الأميركية بموسكو محتدمة. فقد زعم الدبلوماسيون في القسم الاقتصادي، بدعم من وزارة الخزانة في واشنطن، بقدر كبير من الحماس، أن الإصلاحات الجذرية بالسوق الحرة هي السبيل الوحيدة أمام روسيا في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي، وأن الديمقراطية سوف تتبع ذلك بكل تأكيد. وكان المستشارون السياسيون يعتقدون بالقدر نفسه من الحماس، أن مثل هذا «العلاج بالصدمة» لن يؤدي إلا إلى تفاقم حالة الفوضى المدمرة التي يعاني منها الروس بالفعل مع انهيار الاتحاد السوفياتي. وحذروا من أن الشعب الروسي سوف ينتهي به الأمر إلى إلقاء اللوم على الولايات المتحدة - وعلى الديمقراطية نفسها - فيما يعانونه.

وفي خضم هذا الجدال، طرح إي واين ميري، المحلل السياسي البارز في السفارة وأحد أشد المنتقدين للعلاج بالصدمة، قضية مفصلة ضد هذا العلاج في برقية طويلة حملت عنواناً استفزازياً: «من هي روسيا على أي حال؟ صوب سياسة الاحترام الحميد». وفي مقال نُشر الشهر الماضي بشأن البرقية، زعم ميري أن الولايات المتحدة في تلك الآونة كانت تعاني من المغالطة القديمة المتمثلة في محاولة فهم دولة أجنبية «من خلال النظر إلى المرآة».

فقد كان الدفع نحو إصلاحات السوق الحرة في بلد يفتقر إلى أي خبرة باقتصاد السوق أو الديمقراطية، كما كتب، «محاولة خبيثة بصفة خاصة، إذ تحاول مؤسسات واشنطن دقَّ مسمار (مربع) في ثقب أميركي (مستدير)». وقال ميري، الذي أصبح الآن زميلاً بارزاً في مجلس السياسة الخارجية الأميركية، في مقابلة أجريت معه: «لماذا انتهى بي الأمر إلى كتابة تلك الفقرات السبعين؟ لقد ظللت طيلة عامين ونصف العام أكتب عن هذه القضايا، وكنت محبطاً للغاية لأن أحداً في العاصمة لم يكن مهتماً بأي شيء آخر غير النظرية الاقتصادية المقبلة من جامعة هارفارد».

وأضاف أنه شعر بالإحباط الشديد، وقال: «وقررت أنه من واجبي بصفتي رئيساً لقسم الإدارة السياسية - الداخلية في السفارة - أن أبلغ واشنطن بما يجري». لكن كبار الموظفين في السفارة واصلوا التردد حول كيفية نسب البرقية رسمياً، لذا، قال ميري إنه بسبب الإحباط أرسلها عبر ما يُعرف باسم قناة المعارضة، وهي قناة خلفية لوزارة الخارجية أنشئت أثناء حرب فيتنام للسماح للدبلوماسيين الذين اختلفوا مع السياسة الأميركية بتسجيل وجهات نظرهم. وقد أُرسلت البرقية المطولة والرد الموجز من وزارة الخارجية على النحو الواجب إلى سلة الأسرار الرسمية المختومة. لكن البرقية لم تُنسَ. وعلى مدى سنوات، سعى خبراء الشؤون الروسية في أرشيف الأمن القومي، وهي مؤسسة غير ربحية تنشر وثائق حكومية رُفعت عنها السرية، إلى متابعة ما أصبح يُعرف باسم «برقية واين ميري الطويلة»، في إشارة إلى «البرقية الطويلة» الشهيرة التي احتفى بها جورج كينان في عام 1946، والتي شكلت سياسة الولايات المتحدة إزاء الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة. وأخيراً نجح الأرشيف في نشر البرقية في ديسمبر (كانون الأول). والنص الكامل للبرقية، جنباً إلى جنب مع قصتها الخلفية الرائعة.

وتذكرنا إعادة النظر في هذه المناقشات بالتحول الموجع الذي شهدته فترة تسعينات القرن العشرين. كانت روسيا في حالة من الفوضى.

وقد خلفت محاولات إصلاح السوق كثيراً من السكان في حالة فقر مدقع، كما تركت الحكومة في حالة حرب مع نفسها. وكان الرئيس الروسي بوريس يلتسين قد أمر في أكتوبر (تشرين الأول) 1993، أي قبل بضعة أشهر من كتابة ميري برقيته، بإرسال الدبابات وقوات الجيش للسيطرة على البرلمان الذي يشهد نزاعاً محتدماً، كما حكم البلاد بصفة أساسية بموجب مرسوم - بموافقة من إدارة كلينتون آنذاك. كانت تلك هي السنوات التي كانت فيها روسيا لا تزال منفتحة على الغرب، وكان الأميركيون يتدفقون على البلاد سياحاً، وطلاباً، ورجال أعمال، ومستشارين من ذوي النوايا الحسنة. وكان فلاديمير بوتين عميلاً سابقاً غير معروف لجهاز الاستخبارات والأمن الداخلي السوفياتي، ويعمل لصالح عمدة سانت بطرسبيرغ، الذي لا يزال بعيداً عن السلطة.

وبعد ثلاثين عاماً، صارت العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا في أسوأ حالاتها منذ الحرب الباردة. فما الذي تغير؟ إن بوتين هو المسؤول الرئيسي عن عودة روسيا إلى الحكم السلطوي والعدوان والعداء للغرب. لكن الغطرسة والافتراضات الأميركية لا يمكن تجاهلهما. كنتُ رئيس مكتب صحيفة «نيويورك تايمز» في موسكو خلال تلك الأوقات العصيبة، أشاهد موكباً للمستشارين الخاصين والعامين الذين يحاولون بجدية زرع الديمقراطية الليبرالية الغربية على جثة الاتحاد السوفياتي. قلة من الناس كان لديها أي فكرة عن تاريخ روسيا أو مجتمعها؛ بل إن كثيراً منهم كان يجني ثروات سريعة في خضم الفوضى. وأتذكر أن أحد المسؤولين الجادين في صندوق النقد الدولي كان يفكر في أنه لو تبنى الصندوق وصفة تحرير أسعار الطاقة، فإن نصف السكان الروس سوف يتجمدون حتى الموت.

كانت برقية ميري بمثابة صرخة قوية ضد هذا النهج. وقال: «حتى أكثر المسؤولين الروس تقدمية وتعاطفاً قد فقدوا صبرهم إزاء الموكب الذي لا ينتهي لما يسمونه (سياح المساعدة) الذين نادراً ما يكلفون أنفسهم عناء طلب تقييم الاحتياجات الروسية». فقد كتب أن الجهود الأميركية لا بد أن تركز بدلاً من ذلك على «سياسة خارجية روسية غير عدوانية وتطوير مؤسسات ديمقراطية فعالة».

* خدمة «نيويورك تايمز»