"تضارب أمواجه من اللحظات النادرة التي من الصعب تعويضها"، هكذا يقول سكان غزة في ما بينهم، فأمام شاطئ البحر يتكئ الآباء مسترخين، يضحكون من دون حساب للنفقات، فكل شيء هنا بلا نقود، الفرح بالمجان، ولا مجال أمام المياه الزرقاء للحديث عن منغصات الحياة.
قبالة الشاطئ يغرق الناس بأحاديثهم الروتينية، لكنهم يتعاهدون فور وصولهم إلى البحر أن لا كلام عن البطالة والفقر وانعدام الغذاء وأزمات الكهرباء والاقتصاد، النكات والضحكات والألعاب المسلية للكبار قبل الصغار فقط ما هو مسموح، إضافة إلى الاستجمام في المياه.
نصف مليون مصطاف
بالعادة، يعتبر بحر غزة أفضل مكان بالنسبة إلى السكان المحليين، فيقضون فيه إجازاتهم وأوقات الترفيه والاستجمام، إذ إنه المتنفس الوحيد لهم في ظل ارتفاع أسعار تناول الطعام في المطاعم وحاجة المنتجعات السياحية محدودة الانتشار إلى موازنة ضخمة.
أما البحر، فيحبه سكان غزة لأنه مجاني والرحلة إليه لا تحتاج إلى كلفة سوى المواصلات وثمن المسليات التي عادة ما يجلبونها معهم، ويعد مكان الهرب الآمن لهم من درجات الحرارة التي تكوي جلودهم في البيوت التي لا تتوافر فيها كهرباء إلا لمدة ثماني ساعات باليوم.
خلال الأسبوع الماضي زار بحر غزة أكثر من مليون فرد من سكان القطاع البالغ عددهم نحو 2.3 مليون نسمة، في ليلة الخميس والجمعة الماضي قضى نحو نصف مليون شخص أوقاتهم بالاستجمام على شاطئ البحر، بحسب بيانات وزارة الداخلية والأمن الوطني (تابعة لحكومة غزة).
يقول المتحدث باسم وزارة الداخلية إياد البزم "ندرك أن بحر غزة مكان مفضل لاستجمام العائلات، لذلك عملت طواقمنا إلى جانب أفراد البلديات على تأمين الشاطئ خوفاً من حدوث أي طارئ، ومرت الأيام من دون تسجيل أي اختراق من شأنه تعكير صفو المواطنين على رغم هذه الأعداد والحشود الكبيرة من المصطافين".
نظيف نوعاً ما
في الواقع، أكثر زوار بحر غزة الذي يمتد على طول القطاع ولمسافة تزيد على 42 كيلومتراً، من الفقراء الذين يرغبون في تنفيس هموم الحياة بالنظر إليه والسباحة في مياهه التي باتت نظيفة بعد أعوام طويلة من التلوث.
وبحسب مدير وحدة حماية البيئة في سلطة المياه محمد مصلح فإن نتائج تقييم جودة مياه الشاطئ المبنية على الفحص الميكروبيولوجي أظهرت أن 70 في المئة من الشاطئ آمنة للسباحة، أما المناطق الملوثة، فإن الغوص فيها خطر ويسبب مشكلات صحية.
على رمل البحر يكتظ المصطافون صامتون يطربون لهدير الموج الذي يطبطب على قلوبهم، ويكتفون بضحكات أطفالهم أنهم الآن بخير يعيشون الفرح بلا ضرر ولا ضرار، ويحاولون قدر المستطاع الترويح عن أنفسهم واستغلال أوقاتهم بقضاء لحظات جميلة.
مفرش وأوراق اللعب
من بين من وصل إلى البحر، كانت عائلة صبحي التي قررت البقاء ليلة كاملة أمام الشواطئ لاستغلال عطلة نهاية الأسبوع، فحزمت الأسرة أمتعتها، إضافة إلى ما لذ وطاب من المسليات التي يفضلونها استعداداً ليوم كامل من الاصطياف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحت مظلة صغيرة، افترش الأب صبحي رمال الشاطئ وأخذت زوجته تعرض أكياس المسليات الخفيفة التي جلبتها معها على مفرش صغير بعيداً من حركة الأطفال، وتراقب تحركات صغارها وهم يتسابقون في ما بينهم من تلامس قدماه المياه أولاً.
كانت جميع أمتعة أسرة صبحي عبارة عن مفرش قديم ملون وخمس زجاجات من الماء المثلج وقليل من بزر عباد الشمس والفستق السوداني، وكرة قدم مهترئة من كثرة اللعب فيها وأوراق اللعب المعروفة محلياً بمصطلح "الشدة"، إضافة إلى سكين لتقطيع أي فواكه يشترونها أثناء رحلتهم.
هذه الأمتعة القليلة المتواضعة تعد أفضل ما يجلبه المصطافون معهم إلى البحر، لكنهم على رغم ذلك يقضون أوقاتاً جميلة وتغمرهم السعادة وتعلو الضحكات من جلساتهم ويعيشون الفرح بعيداً من الهموم.
رهان البطيخ
ما إن جلس صبحي صامتاً يراقب المياه الزرقاء وحركة الأمواج العاتية المتتالية، حتى شد نظره بائع البطيخ يتجول وينادي "أحمر وحلو… زراعة غزة يا بطيخ"، هم الرجل للشراء، فجلسة البحر لا تصبح ممتعة إلا بأكل الفواكه.
سريعاً أوقفته زوجته وقالت "هل تراهن أنك لا تجيد شراء البطيخ، دائماً ما نجد قلبها أبيض مثل قلبك"، من دون تفكير قبل صبحي الرهان "ستكون حمراء وطعمها حلو عن تحدّ"، ثم أكمل مساره نحو البائع وأخذ يطبطب على الثمار ويسمع صوت رنينها واستمر كذلك حتى اختار واحدة.
بيديه أخذ صبحي يحفر بالرمال حتى صنع حفرة قريبة لحجم البطيخة وطمرها، يعتقد كما جميع سكان غزة بأن بهذه الحال ستصبح باردة بدلاً من أن تكتسب حرارة الشمس الساطعة، وبعد ساعة قرر أن يفتحها بعيداً من عيون زوجته التي تنتظر أن تكسب الرهان.
لحظات لا تعوض
ما إن فرغت الأسرة من تناول الفاكهة، حتى قفز الأب برفقة أبنائه للعب كرة القدم، وقبل أن يصاب بالإرهاق قرر النزول إلى المياه للعوم فيها والاستجمام، حتى لمح من بعيد حسكة صغيرة أشار إليها صبحي من بعيد في إيحاءات لرغبته في الركوب عليها.
بصعوبة أقنع زوجته بالركوب معه، فالعادات والتقاليد في غزة تنظر إلى الفتيات اللاتي يقمن بذلك نظرة سيئة، وبعد إلحاح صبحي تشجعت زوجته وقررت أن تتجاهل حديث آلاف المصطافين الذين يقولون في ما بينهم إن "تضارب أمواج بحر غزة من اللحظات النادرة التي من الصعب تعويضها".