الإجابة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومن والاه، أمَّا بعدُ:
فالحمد لله الذي منّ عليك بالتوبة، ومفارقة الأرض السيئة، نسأل الله لنا ولك دوام الهداية والثبات.
فقد دلّ الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة على أن الله تعالى يغفر جميع الذنوب كبيرها وصغيرها لكل من تاب؛ كما قال تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، أي: لا ييأس مذنب من مغفرة الله، ولو كانت ذنوبه ما كانت؛ فإن الله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لعبده التائب، ويدخل في عموم الآية الكريمة الشرك والنفاق والكبائر، وغيرها من الموبيقات.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10]، قال الحسن البصري: "انظروا إلى هذا الكرم! عذبوا أولياءه وفتنوهم، ثم هو يدعوهم إلى التوبة"، والآية ظاهرة الدلالة أن الله سبحانه يتوب على أئمة الكفر، كما هو الحال فيمن حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تاب.
والأحاديث النبوية المتواترة، والآثار الثابتة عن سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، قطعية الدلالة على أن كل من تاب لله توبة نصوحًا، واجتمعت فيه شروط التوبة= أنه يقطع بقبول توبته تفضلاً من الله ورحمة؛ لأن المغفرة من وعد الله، والله تعالى لا يخلف الميعاد؛ قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا* وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 17، 18] الآيةَ، قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقالوا لي: "كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب".
قال الله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135، 136]، وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119]، وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70]، وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، والآيات بهذا المعنى كثيرة جدًا.
وفي تلك الآيات وغيرها أن الله تبارك وتعالى شرع لعباده التوبة من الذنوب، ووعدهم بمغفرتها، وقبولها من كل من جاء بها على وجهها، مستوفية شروطها من الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم معاودته، والندم على ما كان، فيتوب الله عليه مهما كان ذنبه عظيمًا، ومن ثمّ قال - صلى الله عليه وسلم -: "التائب من الذنب، كمن لا ذنب له"؛ رواه ابن ماجه.
وقال أبو العباس القرطبي في كتابه "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (17/ 10): "والذي أقوله: أن من استقرأ الشريعة قرآنا وسنة وتتبع ما فيهما من هذا المعنى علم على القطع واليقين أن الله تعالى يقبل توبة الصادقين". اهـ.
وقال الإمام ابن رجب الحنبلي في تفسيره (1/ 565-567): "ظاهر هذه النصوص يدل على أن من تاب إلى الله توبة نصوحا، واجتمعت شروط التوبة في حقه، فإنه يقطع بقبول الله توبته، كما يقطع، بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاما صحيحا، وهذا قول الجمهور، وكلام ابن عبد البر يدل على أنه إجماع". اهـ.
وجاء في "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" (7/ 522): "فتقبل التوبة من كل ذنب لتائب منه من غير استثناء شيء من الذنوب، كما دل على ذلك القرآن والحديث، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ما لم يعاين التائب الملَك، وقيل: ما دام مكلفاً; وقيل ما لم يغرغر - أي تبلغ روحه حلقومه -.
وقبول التوبة فضل من الله تعالى غير واجب عليه عند أهل السنة؛ فلو عذب العبدَ على ذنبه لم يكن ظالماً له ولو قدر أنه تاب منه، ولكنه أوجب على نفسه بمقتضى فضله ورحمته أنه لا يعذب من تاب، وقد كتب على نفسه الرحمة، فلا يسع العباد إلا رحمته وعفوه، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار، أو يدخل به الجنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (15/ 55): "فالعبد المؤمن إذا تاب وبدل الله سيئاته حسنات، انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسنات ينفعه الله بها، فلم تبق الذنوب بعد التوبة مضرة له، بل كانت توبته منها من أنفع الأمور له، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، فمن نسي القرآن ثم حفظه خير ممن حفظه الأول، لم يضره النسيان، ومن مرض ثم صح وقوي لم يضره المرض العارض". اهـ.
وقال أيضًا في "منهاج السنة"(2/ 429-433): "... وإذا عُرف أن أولياء الله يكون الرجل منهم قد أسلم بعد كفره، وآمن بعد نفاقه، وأطاع بعد معصيته؛ كما كان أفضل أولياء الله من هذه الأمة - وهم السابقون الأولون - والإنسان ينتقل من نقص إلى كمال، فلا ينظر إلى نقص البداية، ولكن ينظر إلى كمال النهاية، فلا يعاب الإنسان بكونه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة، إذا كان الله بعد ذلك خلقه في أحسن تقويم". اهـ.
فاستعين بالله ولا تعجِز، وأكثر من الأعمال الصالحة، وكلما تذكرت ذنوبك فأحدث توبة واستغفار وندمًا، ,اكثر من الدعاء بالثبات على الحق،، والله أعلم.