♦ الملخص:
شاب ابُتلي بالعادة، لكنه تغلَّب عليها، وحفظ أكثر القرآن، ورُزق لذة العبادة، ثم إنه عاد إليها، فَفقدَ ما كان رزقه الله، وهو يسأل: هل إن عاد فستعود إليه النعم التي منَّ الله عليه بها؟ وما السبيل للعودة؟
♦ التفاصيل:
أنا طالب في الثانوية، كنت وما زلت متفوقًا، ولقد ابتُليتُ بالعادة القبيحة، بئس العادة تلك، وغلبتُها واجتهدت وحفِظت أكثر القرآن، وأتقنت أكثره، ورُزقت لذة العبادة ولذة القرآن، حتى إنني أدمنت قراءة القرآن، فكنت لا أستطيع مفارقته، وللأسف عدتُ مرة أخرى بعد النور إلى الظلمة بعد سنة ونصف، كنت - يا سيدي - صاحبَ عزيمةٍ تهدُّ الجبال، وهمة وثباتٍ، فإذا بذلك القويِّ العازم الثابت يسقط سقوطًا قويًّا، وظللتُ مدمنًا لها لمدة سنتين أو أكثر، أثرت فيَّ بشكل كبير، مع العلم أني خطيب واعظٌ، وليتني عمِلتُ بقولي، بئس ما فعلت وما عملت، ورغم ذلك، فإن ربي لم يتركني في تلك السنة، فكثيرًا ما وُفِّقت في بعض امتحانات الدروس، والجميع ينتظر مني أن أصِلَ إلى شيء عالٍ، والسنة أوشكت على الانتهاء، لكني لم أتقن المواد، فماذا أفعل؟ وهل من الممكن أن أتساوى مع من بدأ الدراسة بجدٍّ إن اجتهدت بقوة؟ وما أسرع طريقٍ لمداواة القلب من أثر الذنب وإرضاء ربي سبحانه بعد كل تلك الذنوب؟ هل لو عدت فستعود تلك النعم التي رزقني ربي؛ من ذكاء، وفهم، وعزيمة، وبصيرة؟ كنت صاحب إخلاص لا يتخلله رياء، فهل من عودة؟ وهل يمكن بعد كل تلك الذنوب أن أكون إنسانًا جيدًا مرة أخرى؟ شاب ابُتلي بالعادة، لكنه تغلَّب عليها، وحفظ أكثر القرآن، ورُزق لذة العبادة، ثم إنه عاد إليها، فَفقدَ ما كان رزقه الله، وهو يسأل: هل إن عاد فستعود إليه النعم التي منَّ الله عليه بها؟ وما السبيل للعودة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فملخص مشكلتك هو:
1- يتضح من أسلوب رسالتك أنك شاب ألمعي ذكي، ويُرجى لك مستقبل باهر بمشيئة الله سبحانه.
2- ذكرت أنك ابتُليت بالعادة السرية، ثم تغلبت عليها مدة من الزمن.
3- ذكرت أنك خلال مدة تركك للعادة السيئة، اجتهدت في حفظ أغلب القرآن، وأتقنت أكثره، ورُزقت لذة العبادة ولذة الإكثار من تلاوة القرآن.
4- ثم ذكرت أنك كنت صاحب عزيمة تهد الجبال، وصاحب همة وثبات.
5- وإذا بك تسقط سقوطًا قويًّا (حسب تعبيرك)؛ حيث عدت للعادة السرية مدة عامين، أثَّرت فيك.
6- ثم تسأل: هل لو عدت لعزيمتك واجتهادك في العبادة والتلاوة، هل ستعود لك تلك النعم السابقة؛ من ذكاء وفطنة، وبصيرة وعبادة، وتلاوة وتلذذ بالطاعات، وإخلاص؟
7- وذكرت أنك كنت خطيبًا وواعظًا، وتسأل متحسرًا: يا ليتك عملت بما تدعو إليه.
8- وتسأل قائلًا: إن الناس ينتظرون منك مستوًى دراسيًّا عاليًا، بينما لم تتقن بعض المواد، والسنة أوشكت على الانتهاء، فهل يمكن أن تتساوى مع من بدؤوا الدراسة بجدٍّ إن اجتهدت بقوة؟
9- ثم تسأل: ما أسرع طريق لمداواة قلبك من أثر الذنوب، وإرضاء الرب سبحانه وتعالى؟
10- ثم تسأل: هل يمكن بعد كل تلك الذنوب أن تعود إنسانًا جيدًا مرة أخرى؟
فأقول مستعينًا بالله سبحانه:
أولًا: ما دمت شابًّا ألمعيًّا وذكيًّا، فاحمد الله على هذه النعم، واجتهد في الاستفادة منها، وسخِّرها فيما يُرضي الله سبحانه عنك، وفيما ينفعك في دينك ودنياك، وما ينفع بلدك وأمتك الإسلامية.
ثانيًا: إقدامك على العادة السرية هو بسبب شدة الشهوة، وعدم وجود مخرج حلال لها، وقد تكون أقدمت على أسباب مهيِّجة للشهوة؛ من نظر حرام، أو سماع كلام فاحش من زملاء الدراسة، وهذه كلها ليست مبررات ولا مسوغات للوقوع في العادة؛ ولذا فعليك محاسبة نفسك على الأسباب والإقلاع عنها فورًا.
ثالثًا: الله سبحانه وتعالى عندما نهى عن الفواحش، نهى عنها وعن كل ما قد يقرب إليها؛ من نظرٍ، وخلوة، وسماع، وتبرج، وغيرها؛ كما في قوله سبحانه: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30].
رابعًا: اعلم - رحمك الله - أنه مهما كثرت ذنوبك، فباب التوبة مفتوح لا يُغلَق أبدًا، وتأمل في الآيات التالية:
1- قوله سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
وقوله عز وجل: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ [الزمر: 53 - 56].
والأحاديث التالية:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِي عَن ربِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى قَالَ: ((أَذنَب عبْدٌ ذَنْبًا، فقالَ: اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِم أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ ربِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغفِرُ الذَّنبَ، وَيَأخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ، اغفِرْ لِي ذَنبي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى: أَذْنَبَ عَبدِي ذَنبًا، فعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، قد غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ))؛ [متفقٌ عَلَيهِ].
وعنه رضي الله عنه قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَجَاءَ بِقومٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّه تَعَالَى، فيَغْفر لَهُمْ))؛ [رواه مسلم].
وعن أَبي أَيُّوبَ خَالِدِ بنِ زيدٍ رضي الله عنه قَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((لَوْلا أَنَّكُمْ تُذْنبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ خَلقًا يُذنِبونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ، فَيَغْفِر لَهُمْ))؛ [رواه مسلم].
من هذه النصوص يتبين لك سعة رحمة الله بعباده، فلا تيأس، ولا تقنط من رحمة الله سبحانه.
خامسًا: أما ما ذكرته مما حصل لك من توفيق عظيم في مدة تركك للعادة السرية، ومن ضده بعد عودتك لها، فالتوفيق من الآثار الطيبة للطاعة، وتردي حالك من الآثار السيئة للمعاصي، بحرمان الطاعات، وحرمان العلم؛ ولذا فاجتهد في ترك المعاصي كلها، وحينها سيعود لك بإذن الله كل ما فقدته من تلذذ بالعبادة والتلاوة، والذكاء والتفوق.
سادسًا: أما ما ذكرته من أنك كنت صاحب همة وعزيمة تهد الجبال، وعزيمة وثبات، ثم إذا بك تسقط سقوطًا قويًّا، ففتِّش في نفسك، وفي أسباب سقوطك؛ فقد يكون لأحد الأسباب الآتية:
1- سيطرة العاطفة عليك، مع ضعف عنايتك بمثبتات القلوب التي منها:
ضعف عنايتك بتقوية التوحيد في قلبك.
عدم طلبك العلم الشرعي على أيدي العلماء الربانيين.
وتفريطك في الدعاء بالثبات.
وإعجابك بنفسك.
تعرضك لفتن الشهوات.
مجالستك من لا خلاق لهم.
ربما أصابك حسد بسبب افتخارك بما وهبك الله، والتبجح به أمام الغير، فعالجه برقية نفسك بنفسك بالرقية الشرعية.
2- في حالات كثيرة عند التدقيق تم الكشف عن سبب خفي للانتكاسات، ما هو؟ هو إرهاق النفس بعبادات زائدة عن القدر المعقول، وعدم ترك أي مجال للترويح عن النفس؛ ويدل لذلك الأحاديث الآتية: ((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ، تَبْلُغُوا))؛ [البخاري]، ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ))؛ [البخاري]، ((إن هذا الدين متين؛ فأوغلوا فيه برفق))؛ [رواه الإمام أحمد، وحسَّنه الألباني].
سابعًا: أما سؤالك: هل لو عدت للاجتهاد في العبادة وترك المعاصي، فستعود لك همتك ونشاطك؟
فأقول: نعم، إن شاء الله؛ لأن الطاعات تجلب الرزق والتوفيق، والمعاصي بضدها؛ كما قال عز وجل: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165].
وكما قال سبحانه: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 – 12].
المهم هو الإخلاص لله سبحانه، وألَّا يكون الهدف الأساس هو طلب الدنيا.
ثامنًا: قولك: إنك خطيب وواعظ، وتتساءل بحسرة: يا ليتك كنت عملت بما تقول، أقول: التحسر المعقول على التقصير والذنوب علامة صحة، وطريق صحيح للتصحيح، أما تحسر الاحتقار للنفس المتجاوز للحدود، فهذا من الشيطان؛ لتحطيم النفس، وتثبيطها عن الاستمرار في طريق الدعوة للخير، فكن على حذر شديد منه، علمًا أنه من الناحية الشرعية لا يشترط أن يكون الداعية مطبقًا لكل ما يدعو إليه، ولكنه الأفضل.
تاسعًا: أما تساؤلاتك الثلاثة الأخيرة؛ وهي:
هل يمكن إذا اجتهدت أن تتساوى مع من اجتهدوا من بداية السنة؟
وما أسرع طريقة لمداواة قلبك بعد الذنوب وإرضاء الرب سبحانه وتعالى؟
وهل يمكن أن تعود إنسانًا جيدًا؟
فأقول: كل ذلك ممكن بمشيئة الله سبحانه، ولكن قد تحتاج لبعض الوقت؛ فلا تستعجل النتائج؛ لأن الهدم سهل، والبناء صعب، ولكن يسهله الله على المخلصين، وباب التوبة مفتوح للصادقين.
عاشرًا: انتبه لا تشغل نفسك بمقارنتها بالآخرين؛ لكيلا تصاب بالإحباط، وتذكَّر الحديث الآتي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَلَّا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ))؛ [متفقٌ عَلَيْهِ]، وهذا لفظ مسلمٍ، وفي رواية البخاري: ((إِذا نَظَر أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عليهِ في المالِ وَالخَلْقِ، فلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ)).
حفِظك الله، ورزقك توبة صادقة، وعزيمة، وجدًّا واجتهادًا، وثباتًا وإخلاصًا.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد ومن والاه.