في ظل الظروف الاقتصادية الحالية وما يرافقها من ضغوط اجتماعية متزايدة يجد المواطن العربي نفسه في مأزق حقيقي لتأمين منزل العمر، كما يلعب العامل السياسي دوراً رئيساً فالحروب التي ما زالت قائمة في بعض البلدان تفرض وضعاً مختلفاً يضاف إلى الظروف العالمية، أما الحرب الروسية - الأوكرانية فلها القرار الحاسم في تسريع وتيرة التضخم في العالم، وارتفاع تكلفة مواد البناء من الأسفلت وأنابيب الحديد الصب والخرسانة، وما زالت الحرب تغذي تفاقم أسعارها حتى اليوم.
تقديرات
وفي ظل الارتفاع الدائم والحاد لأسعار مواد البناء أصبح تقدير القيمة الحالية الدقيقة للبيوت صعباً، إذ تنطلق تكاليف البيوت عادةً من سعر المتر الواحد للبناء تبعاً للمنطقة التي يتواجد فيها أولاً والإطلالة والمرافق والإضافات الأخرى ثانياً، ثم الإكساء بشقيه الخارجي والداخلي وصولاً إلى الأثاث والأدوات.
في بلدان كثيرة ومنها بلدان الخليج العربي، تكون المنازل المخصصة للبيع مجهزة مسبقاً بالأثاث، أما في بعض البلدان العربية الأخرى ومنها سوريا فيستطيع المواطن شراء منزل من دون أثاث، ثم يعمل هو على تأثيثه (إكسائه)، وفيما سبق كانت الغالبية تتجه إلى هذا الخيار ظناً منها أنها الطريقة الأجدى في توفير بعض من المال، من خلال الاعتماد على مهنيين ومعلمي بناء متفرقين من ذوي الأجور المنخفضة، والاستفادة من تفاوت أسعار مواد البناء والأثاث واختلاف طرق ومصادر الحصول عليها، لكن الحقيقة أن الارتفاع الدائم لمواد الإكساء يجعل من هذا الفعل أمراً لا جدوى منه، إذ أنه في أفضل الأحوال سيكلفه نفس التكلفة السابقة، وفي حالات أخرى سيدفع أكثر، أضف إلى ذلك أن اختيارات الشخص غير المتخصص لن تكون جيدة في الغالب، فهو سيختار بخبرته (شبه المعدومة) الأرخص تكلفة بغض النظر عن الجودة الأمر الذي سيعيده كل مرة إلى المربع الأول، عندما يجد نفسه وجهاً إلى وجه أمام أعمال الصيانة والإصلاحات وأجورها المرتفعة.
رحلة الستين عاماً
فعملية إكساء المنزل مثلاً، تتطلب مجموعة عناصر كانت في وقت سابق شبه ثابتة، بدءاً من حساب مساحة البناء المراد إكساؤه وتحديد المواد اللازمة لعملية الإكساء، وتكلفة كل منها وحساب أجور النقل والتحميل وأجور اليد العاملة وغيرها، لكنها بعد عام 2011 لم تتوقف عن الارتفاع. وحتى عندما يقوم المواطن بحساب تكلفة بناء بيت صغير، عليه أن يعلم أنها تكلفة حالية موقتة، لأنه في حال توقف بضعة شهور عن العمل، سيكون ربما من الصعب عليه استكمال البناء.
وبحسب دراسة ميدانية أجرتها صحيفة سورية محلية فإن تكلفة بناء شقة صغيرة بمساحة 100 متر مربع وصلت إلى نحو 80 مليون ليرة سورية (11000 دولار) السنة الماضية، أي أن المواطن السوري يحتاج إلى حوالى 60 سنة لتغطية تكلفة امتلاك منزل العمر من دون الأثاث والمتطلبات الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تضخم غير مسبوق
وفي عام 2020 تراوحت أسعار المنازل التي تبلغ مساحتها 80 متراً في العشوائيات بدمشق (أملاك دولة) نحو 25 مليون ليرة سورية، بينما تبدأ أسعار المنازل التي تملك "طابو أخضر" (صك ملكية) وبنفس المساحة، من 60 مليون ليرة سورية. أما سعر العقار في المناطق الفاخرة، فحلّق بأرقام خيالية.
وعندما نعود بالزمن إلى عام 2013 مثلاً نجد أن البيت الذي لم يكن يتجاوز سعره 30 مليون ليرة (4000 دولار) وصل اليوم إلى ما يتجاوز 200 مليون سوري (28000 دولار).
وكانت قد توقفت في فترات سابقة مشاريع بناء عدة ريثما يهدأ الوضع العام وتستقر الأسعار، بخاصة في مراحل الارتفاع الكبير للدولار، لكن مع الوقت أدرك الجميع أن لا مصلحة لأحد بالتريث فالتكاليف لم تتوقف يوماً خلال العشر سنوات الماضية عن الارتفاع، فبحسب الإحصاءات ارتفعت أسعار مواد البناء بنسبة تجاوزت 220 في المئة بين عامي 2011 و2019، بالتالي الإسراع في إنهاء البناء هو الخيار الصحيح مهما بدت الأسعار مرتفعة.
بالإضافة إلى الظروف الإنتاجية الصعبة التي تمر بها الصناعات الخاصة بمواد البناء وعلى رأسها الإسمنت، بحسب مدير عام "المؤسسة العامة لصناعة الإسمنت ومواد البناء" في سوريا، الذي دق ناقوس الخطر معلناً الدخول في مرحلة تحيط بها ظروف تجعل تأمين مستلزمات العملية الإنتاجية أمراً شبه مستحيل، بخاصة وأن الفيول وحوامل الطاقة تشكل 80 في المئة من تكاليف الإنتاج، الأمر الذي من الممكن أن يوقف هذه الصناعة وبالتالي سيحرم السوق من الإنتاج المحلي.
وحدة حال
وتشترك معظم الدول العربية في هذه الأزمة، إذ ارتفعت أسعار العقار في تونس مثلاً بنسبة 7 في المئة في الربع الأول من عام 2021، وارتفعت معها أسعار المنازل حوالي 14 في المئة، أما الأراضي المخصصة للسكن فبلغت حصتها 6 في المئة، بسبب ارتفاع أسعار مواد البناء بالتوازي مع تراجع عملة الدينار. وبالتالي كان الحل الأنجع هو التحول إلى الاستئجار هرباً من أسعار الشقق التي خرجت عن السيطرة تماماً وأصبحت بعيدة المنال بالنسبة للمواطن التونسي العادي.
وفي العراق تراوحت أسعار العقارات السكنية في العاصمة بغداد بداية هذا العام بين 2000 و8000 دولار للمتر الواحد، بحسب مسح نُشر عام 2022 لمنظمة العمل الدولية بالتعاون مع السلطات العراقية.
وكذلك في الأردن أسهم ارتفاع الأسعار وزيادة فوائد البنوك والركود الاقتصادي في تراجع العديد من الأردنيين عن تحقيق حلم امتلاك منزل العمر.