اليهودي الأخير في إريتريا: أحمل إرثا ثقيلا بمفردي

منذ 9 أشهر 90

في حال أشبه ما تكون بقصص الأساطير التي نقرؤها في الروايات التاريخية، ثمة رجل يسمى سامي كوهين يعيش وحيداً كآخر شخص يحمل الإرث اليهودي في إريتريا، وتحديداً في العاصمة أسمرة. 

ويحكي الرجل في فيديو منشور على مواقع التواصل الاجتماعي خلال إفادته لأحد الرحالة ويدعى مارتين، "قبل عقود عدة كان هذا الكنيس اليهودي في أسمرة يغص بالمصلين، وتلك المدرسة اليهودية المجاورة كانت مليئة بالأطفال، إذ إن مئات اليهود كانوا يعيشون هنا كجزء من المجتمع، ولدى إعلان تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 هاجر عدد كبير منهم نحو الوجهة الجديدة، وعزز ذلك انسحاب الاستعمار الإيطالي ثم البريطاني وقيام الثورة الاريترية من أجل الاستقلال، إذ اقترب الثوار منتصف سبعينيات القرن الماضي من دخول العاصمة أسمرة، مما دفع عدداً كبيراً من المجتمع اليهودي إلى المغادرة.

973D19C1-B02A-45BB-A999-627BB7304127.jpeg

وتشير المصادر إلى أن أوائل هجرات اليهود نحو إريتريا بدأت أواخر القرن الـ19 قادمة عبر البحر من جنوب اليمن حين كانت إريتريا مستعمرة إيطالية، وذلك بغرض البحث عن الفرص التجارية الكبيرة التي كانت متوافرة آنذاك.

كثير من الثراث والوحدة

ويحكي كوهين السبعيني أن أسلافه جاءوا إلى إريتريا ضمن تلك الهجرات الأولى من اليمن، يقول "كان والدي يعمل في تجارة العطور وتصديرها إضافة إلى منتجات الزجاج، إذ افتتح متجراً بجوار المسجد الكبير في شارع رئيس، ولقد عاش آبائي هنا وعاشت جميع الطوائف الدينية جنباً إلى جنب بسلام، وكانت حياة هادئة وجيدة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشير باحثون في التاريخ الإريتري إلى أن الهجرة الثانية لليهود كانت خلال ثلاثينيات القرن الماضي، أثناء فترة الحكم النازي في ألمانيا وعدد من الدول التي ضمتها إليها، إذ فر نحو 500 يهودي إلى أسمرة التي كانوا يصفونها بـ"وطنهم"، وخلال الأربعينيات ازدهر مجتمعهم تحت حماية الأنظمة الاستعمارية الإيطالية والبريطانية. 

وبعد ضم إريتريا قسراً إلى إثيوبيا وقيام حرب الاستقلال الإريترية بدأت الهجرة المعاكسة ليهود أسمرة نحو وجهات عدة لعل أهمها إسرائيل التي استقبلت معظهم، لكن عائلة واحدة بقيت صامدة في أسمرة على رغم تقلبات الأوضاع وتعاقب الأنظمة وهي أسرة كوهين، قبل أن تقرر هي الأخرى مغادرة إريتريا عام 1998 ليبقى سامي كوهين وحده، وقد عارض فكرة الهجرة متمسكاً بمكان ميلاده وبما يعتبره "إرثه في أسمرة". 

لكن كيف يبدو إيقاع يومه العادي في أسمرة؟ 

يجيب كوهين في الفيديو المنشور على منصة "يوتيوب" من داخل الكنيس اليهودي الوحيد والفارغ تماماً من الناس، "أؤدي الصلاة هنا في الصباح وأقف على تنظيف الكنيس ثم أذهب إلى متجري، أما في ساعات المساء فإنني أشاهد التلفاز وأتحدث مع أقاربي في إسرائيل عبر الهاتف، وبالطبع أشعر بالوحدة".

ويضيف، "ربما في يوم من الأيام سيعيش مزيد من اليهود في أسمرة وربما لا، وحتى ذلك الحين أشعر بأنني أحمل على كتفي إرثاً ثقيلاً".

وبقي سامي كوهين يهودياً أوحد في مدينة يسكنها نحو 900 ألف نسمة، أميناً على كنيس لا يصلي فيه سواه، ومشرفاً على مقبرة يهودية ربما لا تنتظر غيره كي تغلق أبوابها للأبد.

أرض الميعاد المفترضة 

وبالعودة لحياة اليهود في إريتريا منذ نهايات القرن الـ19 وحتى منتصف القرن الـ20، تشير المصادر إلى أنهم عاشوا كأقلية دينية تتمتع بكثير من الحرية، وعلى رغم أن أعضاءها جميعهم أتوا من دول أجنبية وليسوا إريتريي الأصل إلا أنهم تمتعوا بحقوق مساوية لسكان البلاد ومارسوا أنشطة تجارية وبخاصة تلك المتعلقة بالاستيراد والتصدير، وقد أسهمت الحال التي عاشتها الجالية اليهودية في أسمرة ببروز مطالب لدى بعض نخب المجتمعات اليهودية في أوروبا التي رأت في إريتريا جغرافيا محتملة لإقامة الدولة اليهودية التي تضم الشتات اليهودي.

72918FCE-B460-4663-99DE-A0BCB733DEE0.jpeg

وتشير مقالة منشورة في صحيفة "جيوش تليغراف أجينس" في الـ 19 من مارس (آذار) 1943 إلى أن "وزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن أعد خطة طموحة لتوطين اليهود في إريتريا، على أن يحمل المشروع إلى العاصمة الأميركية واشنطن لمناقشته مع مسؤولي البيت الأبيض. 

وتكشف الصحيفة أن خطة إيدن كانت "تقترح إجلاء اليهود من البلدان التي يهيمن عليها النازيون إلى إريتريا، وتعتقد أن المجر ورومانيا وبلغاريا قد تتفق على السماح لهجرة اليهود من أراضيهما بشروط معينة، لذلك سيناقش إيدن مع نظرائه الأميركيين إمكان إجراء توطين واسع النطاق لليهود من هذه البلدان في إريتريا، كمساهمة بريطانية في إنقاذ اليهود من الإبادة النازية"، وذلك يعني أن إريتريا كانت إحدى الدول المرشحة لإقامة دولة قومية لليهود قبل وقوع الاختيار ربما لأسباب تاريخية ودينية على فلسطين، على رغم أن الوجود اليهودي في إريتريا ليس قديماً، لكن لعل التعايش السلمي الذي صاغ العلاقة بين الإريتريين والجالية اليهودية، فضلاً عن هزيمة المستعمر الإيطالي على يد الحلفاء، قد جعلها وجهة محتملة لإقامة ما كان يعرف حينها بـ "أرض الميعاد".

حياة الشاهد الأخير

من جهته يؤكد الفنان الإريتري جرماي عندوم أن افتتاح السفارة الإسرائيلية في العاصمة الإريترية بداية التسعينيات سمح لأعضاء السفارة من اليهود بالمشاركة في أداء الصلوات بالكنيس الإسرائيلي وسط أسمرة، والذي بني عام 1905 أثناء فترة الاستعمار الإيطالي. 

ويقول جرماي الذي عمل سابقاً أستاذاً في المدرسة الأميركية بأسمرة لـ "اندبندنت عربية" إن بعض أبناء الدبلوماسيين الإسرائيلين كانوا طلاباً بالمدرسة ذاتها، ويذكر أنهم كانوا يشاركون في أداء الطقوس بالكنيس اليهودي صباح كل سبت، لكن استبعاد السفير من أسمرة وتعليق عمل السفارة جعل من كوهين مجدداً "اليهودي الأخير" والمقيم الوحيد للصلوات في الكنيس، والشاهد الباقي على حقبة أسلافه في هذه المدينة الأفريقية.

D2DA1C42-E33C-43E2-B126-8F3602C2111E.jpeg

بدوره يرى الصحافي والقاص جمال همد أن الجالية اليهودية في أسمرة أقامت الكنيس والمدرسة التلمودية، وعاشت من دون "غيتو"، وعمل أبناؤها في الوسط التجاري، إذ أقاموا محالاً تجارية متوسطة مما أتاح لهم التماس المباشر مع السكان والجاليات العربية والأجنبية، ولم تسجل أية حوادث استهداف بحقهم مما يعد دليلاً على التعايش الذي كان سائداً بينهم وبقية السكان في المدينة الإريترية الأكبر.

وفي تعليقه على المشروع الإنجليزي الذي سعى إلى توطين اليهود في إريتريا منتصف أربعينيات القرن الماضي يقول الصحافي الإريتري، "ليس من الواضح ما الذي دفع بأوساط النخب اليهودية آنذاك إلى تداول إريتريا كجهة محتملة لاستقبال يهود أوروبا، وهو الطرح الذي تبنته حكومة المملكة المتحدة، لكن من المرجح أن يكون السببب هو حال الأمان التي عاشتها الجالية المقيمة هناك".

ويضيف همد، "لا نعرف على وجه الدقة هل كان المشروع قائماً أساساً على إيجاد دولة يمكن أن تستقبل اليهود المطاردين في أوروبا كي يعيشوا بأمان، أم كان البحث قائماً على سردية أرض الميعاد التي تم تجييرها مع تأسيس دولة إسرائيل الحالية".