حين أحرز الجيش الأوكراني تقدماً سريعاً في حملة الخريف، كانت المخاوف من انتقام روسيا نووياً مرتبطة بتفسير أميركي قديم للنظرية الاستراتيجية الروسية: «التصعيد حتى التهدئة»، أو فكرة استخدام ضربة نووية محدودة لرفع مخاطر الصراع إلى الحد الذي يجعل أعداءك لا يرون خياراً آخر غير التفاوض، بصرف النظر عن مزاياهم على الصعيد العسكري التقليدي.
في الأشهر التي تَلَت ذلك، كانت العودة إلى حرب الاستنزاف والنفي الروسي عبر صور متنوعة لفكرة إقدامه على الخيار النووي، سبباً في تخفيف المخاوف النووية إلى درجة ما، ولكن نظرية «التصعيد حتى التهدئة» تظل وثيقة الصلة بالموقف في أوكرانيا؛ لأنها تبدو وكأنها تعمل على توجيه الاستراتيجيات الأميركية والروسية التقليدية، وليست النووية، في إطار حملة الربيع. لاحظ أنني قلت الاستراتيجية الأميركية وليست الأوكرانية. تبقى الاستراتيجية المنشودة لأوكرانيا كما كانت طوال الحرب: «التصعيد حتى النصر». كييف تريد أكبر قدر ممكن من الأسلحة التي يمكن للغرب إرسالها، وتريد استعادة كل شبر من الأراضي، ولا تريد القبول بشروط من شأنها التنازل عن أي شيء للروس.
يشاطرها هذا الموقف العديد من الأصوات المتشددة في أوروبا وأميركا، التي لا تزال تخطط لانتصار أوكرانيا وإطاحة فلاديمير بوتين. ولكن ربما لا تشاطرها إدارة بايدن، أو على الأقل لا يشاطرها فيه صُناع القرار الرئيسيون.
صحيح أن الموقف الرسمي في البيت الأبيض أن أوكرانيا سوف تحظى بدعمنا طوال الطريق إلى النصر، لكن النهج الحذِر الذي اتبعه الرئيس بايدن وفريقه تجاه التسلح الذي قد يغير بشكل جذري من توازن الحرب، والتلويحات التي تشجع كييف على إظهار الانفتاح على المفاوضات، والقلق بشأن الاستثمار بشكل كبير على حساب الالتزامات - كل هذا يشير إلى أن الهدف المباشر للبيت الأبيض هو هدنة مواتية، وليس هزيمة كاملة لروسيا. للوصول إلى ذلك السلام المتصور، يتعين عليك إقناع الروس بأن الهدنة الحقيقية - عوضاً عن «صراع جامد» آخر، حيث تتوقف الحرب، ولكن السلام لا يتحقق بصفة رسمية أبداً - تصب في مصلحتهم، وأنهم إذا ما استمروا في تأجيج الحرب فسوف يستمرون في خسارة الرجال والعتاد بوتيرة وحشية تؤدي إلى زعزعة استقرار النظام. كان أحد الآمال أن يكون الهجوم الأوكراني المضاد في الخريف الماضي، وقدرة أوروبا الناجحة حتى الآن على تحمل شهور الشتاء، حاسمين في دفع موسكو نحو قبول هذا الواقع، وحتى نحو بلورة مقترحاتها الخاصة (غير الواقعية من دون شك) من أجل التوصل إلى تسوية تفاوضية.
بدلاً من ذلك، يبدو أن الروس لا يكتفون بالتخندق في مواقعهم، وإنما يتوقون أيضاً إلى شن هجمات جديدة. وهذا ما يفسر، في المقابل، سبب إقدام بايدن في البيت الأبيض والحلفاء الأوروبيين على رفع مستويات التصعيد بحذر، مما يمكن من زيادة الدبابات والمدرعات الثقيلة المتدفقة إلى أوكرانيا. حتى الآن لم تكن هذه سياسة مصممة لإرباك التعبئة الروسية بالكامل أو طرد الروس من أوكرانيا، وإنما هي سياسة تهدف، على ما يبدو، إلى إحباط أي هجوم جديد، وربما جعل الروس يخسرون المزيد من الأرض، وإبلاغ موسكو بأنها لا تستطيع الفوز بحرب طاحنة.
إنه تصعيد يفترض أنَّ الروس بحاجة إلى مزيد من الإقناع، ومن ثم سيكونون منفتحين على تخفيض التصعيد الذي لم يتمكن الغرب من تحقيقه. لكن يبدو أن هناك منطقاً مماثلاً أيضاً يقود الاستراتيجية الروسية. من المنظور الروسي المفترض، فإن المكاسب الأوكرانية في الخريف والمرونة الأوروبية في الشتاء جعلتا النجاح العسكري أكثر إلحاحاً. لا جدوى من التوسع في مقترحات السلام ما دام الأوكرانيون مقتنعين بأنهم قادرون على تحقيق نصر كامل، وهم أكثر اقتناعاً بذلك من أي وقت مضى.
لذا فلن يتسنى التوصل إلى تسوية مقبولة من جانب موسكو إلا بعد كسر هذا الأمل بقوة السلاح، مما يجعل من الضروري إثبات عسكرياً أن الجمود هو أفضل ما يمكن أن تأمل فيه كييف، وأن الدعم الأميركي والأوروبي قد يكون كافياً للاحتفاظ بالأرض، ولكن ليس لاستعادة السيطرة عليها بشكل كامل. ولا يمكن تقديم مثل هذا الدليل إلا من خلال التصعيد، حيث يؤمّل أن يكون وقف التصعيد في الانتظار على الجانب الآخر. سوف يعترض الصقور على هذا التحليل بالإشارة إلى أننا لا نملك أي دليل على أن روسيا تريد حقاً تخفيض التصعيد الحقيقي في أي مرحلة أدنى من الغزو. (ومن هنا تأتي الحجة التي يسوقها الصقور لصالح التزام أميركي أكثر صرامة وأكثر توجهاً نحو تغيير النظام). سوف يعترض الحمائم على أنني أبالغ في تقدير رغبة البيت الأبيض الحقيقية في التوصل إلى تسوية، وأقلل من شأن السياسة الأميركية التي تحركها حمى الحرب الدائرة، أو الضرورات الصناعية العسكرية، أو طموحات ليبرالية قديمة متداعية تحمل مسحة قومية باهتة. (ومن ثم برزت حُجة الحمائم الداعية إلى خفض أو رفض المزيد من المساعدات العسكرية إلى كييف).
لكن السبب في رؤية الوضع على النحو الذي وصفته، حيث تتخيل واشنطن وموسكو أنهما تصعدان نحو تسوية سلمية، هو أنه وضع مألوف تاريخياً، إذ تندلع الحرب فجأة، ومن المتوقع أن تنتهي سريعاً، لكن يحدث مأزق جامد بدلاً من ذلك، ويصبح كلا الجانبين مقتنعاً بأن زيادة التزامهما بالنزاع سوف يضع حداً أسرع للنزاع وبشروط أكثر ملاءمة.
هذه القناعة المتبادلة ليست مسألة رومانسية أو خيالية أو حماقة بسيطة (رغم أن هذه القوى تدخل في الأمر بطبيعة الحال)، وإنما يجري تبنّي التصعيد بوصفه قراراً منطقياً مدروساً، وباعتباره المسار المعقول الوحيد. انطلاقاً من هذه النظرة العقلانية، فإنك تقترب أكثر من اللاعقلانية المتمثلة في القتال لسنوات، في حرب لا يمكن لأي طرف أن يأمل النصر فيها.
* خدمة «نيويورك تايمز»