"الهبة"... معالجة جزائرية لتعقيدات الإرث

منذ 11 أشهر 113

بات اللجوء إلى عقود الهبة في اقتسام الإرث ظاهرة منتشرة بصورة لافتة في الجزائر بعد أن باتت قضايا العنف داخل الأسر، والتي تعالجها محاكم البلاد، أسبابها تتعلق بالميراث، مما جعل الخطوة "ذكية" في سياق منع الخلافات بين أفراد العائلة، لكنها أفرزت وضعاً اجتماعياً مقلقاً، على اعتبار أنها تخضع للأهواء أكثر منها للشريعة الإسلامية.

رواج حق زاد من متاعب العائلات

تحول اقتسام وتوزيع الأملاك من طرف الأجداد والأولياء وهم أحياء إلى ثقافة لدى كثر من الجزائريين الذين يعتبرون أنها فكرة ضمن حقوق الورثة، بعيداً من النزاعات التي قد تندلع في حال وفاة أصحاب الإرث بسبب "تعنت" جهة، أو عدم رضا أخرى أو اعتماد التجاهل من طرف أو اللجوء إلى التزوير لـ"أكل" حق وغيرها من المسببات التي تؤدي إلى توترات تكون المحاكم الفيصل في حلها.

وتمثل الملفات المطروحة أمام الأقسام العقارية في المحاكم والمتعلقة بتقسيم الإرث المتنازع عليه بين الورثة، نسبة كبيرة من قضايا الشيوع أو ما يسمى البيوع، أي المتعلقة بعقارات محجوزة أو متنازع عليها، كالفلل والشقق والأراضي الخاصة بالبناء أو الزراعة والآبار والورش والمستودعات والمصانع ومقار الشركات، والتي استحال تقسيمها عينياً، حيث قدر الحقوقي أحمد موهوبي في حديث إلى "اندبندنت عربية"، أن أكثر من 14 ملف يطرح يومياً أمام القاضي العقاري يتعلق بالميراث. وأضاف أن اللجوء إلى الهبة بدلاً من الميراث بعد الوفاة، يهدف إلى تفادي الخلافات والمشاحنات التي فرقت كثيراً من العائلات واقتادت الأبناء إلى المحاكم، بعد أن بلغت الأوضاع حدود ارتكاب جرائم القتل والعنف، دون الحديث عن خصومات طوية المدى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويضيف موهوبي أن رواج عقود الهبة التي يقوم بها الأولياء لصالح أبنائهم، أمر إيجابي يجب تثمينه، على اعتبار أنه يتم تقسيم أموال وعقارات ثابتة ومنقولة بالتراضي، حرصاً منهم على ضمان الحقوق وتفادي الخلافات بعد الوفاة، مشيراً إلى أن المستفيد الأول من الخطوة هي المرأة التي لا تزال تعاني الحرمان من الميراث في بعض مناطق البلاد، وأبرز أنه سيطرت على عقلية الورثة خلال السنوات الأخيرة، النزعة المادية والأنانية أكثر من الاهتمام بالمحافظة على الروابط العائلية وصلة الرحم.

حماية بعض حقوق المتوارثين

من جانبه، يقول المحامي محمد الطاهر بوغابة إن قضايا الميراث في العدالة بصفة عامة تستغرق وقتاً طويلاً، بخاصة إذا تعلق الأمر بأملاك عقارية، وفي مقابل ذلك يضيع المتقاضي وقته وماله، ويدخل في خصام طويل مع عائلته تتصاعد معه الخلافات التي تنتهي بجرائم الضرب والاعتداء أو الاحتيال والتزوير، وحتى القتل في بعض الأحيان، مؤكداً أن ملفات البيوع العقارية المتعلقة بإجراءات البيع بالمزاد العلني، عرفت تراكماً في السنوات الأخيرة، بخاصة أن هناك بعض العراقيل تتعلق بإجراءات الخبرة من طرف المتخصص في ذلك، وإشكالية تقييم العقار محل النزاع.

وأوضح بوغابة أن تعنت بعض المتقاضين حول الميراث المتمثل في العقار، ورفض أحدهم أو بعضهم بيعه وتقاسم مبلغه، وإصرار صاحب الدعوى على متابعة القضية لإرغامهم على التنازل والبيع، يجعل الأمر ينتهي في المزاد العلني الذي يقدم سعراً هزيلاً للعقار، وهو ما يعد خسارة للعائلة، موضحاً أنه من هذا المنطلق تبقى ظاهرة الهبة إحدى الخطوات التي من شأنها وضع حد للخلافات العائلية وحماية بعض حقوق المتوارثين.

لا تتم دائماً في الاتجاه الإيجابي

في سياق متصل، يعتبر رئيس الغرفة الوطنية للموثقين رضا بن ونان أنه نظراً إلى أهمية عقود الهبة في ضمان استقرار المجتمع ودحر الخلافات بين الوارثين وتعزيز الصلة بين أفراد الأسرة، من خلال تشجيع التبرع والهبة وما تسهم فيه من تأليف للقلوب وجمع للشمل، تم إدراج هذه العقود في المادة 202 من قانون الأسرة، أي تم تعريف الهبة على أساس أنها تمليك بلا عوض وهي لا تتم إلا بين الأحياء، مضيفاً أنه وباعتبار عقد هبة العقار تصرفاً خطراً يتجرد فيه الواهب من ماله دون مقابل على نحو يؤثر في ذمته المالية ويحدث أثراً بالغاً في نفسه، أجاز المشرع الجزائري الرجوع في الهبة بشروط وفق المادة 211 من قانون الأسرة، التي نصت على أن للأبوين حق الرجوع عن الهبة مهما كانت السن، إلا في بعض الحالات كأن تكون الهبة من أجل زواج الموهوب له أو لضمان قرض أو قضاء دين.

لكن رئيس الغرفة الوطنية للموثقين استدرك بالقول إن عقود الهبة لا تتم دائماً في الاتجاه الإيجابي أين يضمن الأولياء العدل والمساواة لأبنائهم، مبرزاً أنه توجد بعض الحالات، حيث يحرم الأب أو الأم أحد الأولاد من الهبة، أو يفاضلون بين الأبناء بإعطاء حصة الأسد للكبير ويبخسون حق الصغير.

وفي بعض الأحيان تحرم البنت من الهبة ويستأثر بها الأولاد، مما يدفع المتخاصمين إلى المحاكم كمحاولة لإبطال عقود الهبة التي تكون محل ظلم ومغالاة من طرف الأولياء، وهنا يكون للهبة أثر سلبي على جميع أفراد الأسرة. وقال رضا إنه في حال عدم رضا جميع الأطراف عن هبة الأولياء، فإن الموثقين يتريثون في إبرام العقود حتى يكون التوافق، وفي جميع الحالات فإن القانون يسمح للأب بأن يهب ما يشاء من أملاكه لأبنائه، فهذا يدخل من باب التبرع والهبة عن طيب خاطر، ويشترط على الأولياء كبار السن حيازة شهادة الأهلية العقلية، أي يلزم الموثق الواهب إذا كان كبير السن شهادة السلامة العقلية لتفادي كل أنواع الإكراه والضغط والاحتيال.

من يحمي المرأة من الرجل؟

ولا يزال كثير من المناطق الداخلية في الجزائر، لا سيما في القرى والمداشر والأرياف، تمارس حرمان المرأة من الإرث، حيث يكتب الآباء جميع أملاكهم لصالح الذكور، غير أن قانون الأسرة في البلاد تفطن لـ"التجاوز" وسمح للمرأة المحرومة أن ترفع دعوى قضائية تتهم فيها الوالد أو الأم بمخالفة الشريعة الإسلامية في تقسيم الأملاك بين الأبناء، وذلك باللجوء إلى المادة 204 التي تنص على أنه " ما لم يصرح به في قانون الأسرة يستمد من أحكام الشريعة الإسلامية"، من ثم يلجأ القاضي إلى اعتماد ما تنص عليه الشريعة في تقسيم الإرث.