ما هي إلا دقائق قليلة حتى ينتقل المشّاء على دروب لبنان إلى أحضان الطبيعة العذراء، ففي وسط أشجار الأرز واللزاب والشوح ينسى المرء مشكلاته أو يكاد، لشدة السحر المنبعث على طول الدرب الممتد من "عيون الخيار" في أعالي جبال فنيدق نزولاً إلى جبال مشمش العكارية على ارتفاع 1800 متر عن سطح البحر.
عند الثامنة صباحاً بدأت مغامرة "تجديد الذات" واكتشاف درب جديد من دروب عكار الذي كان يمثل المجهول بالنسبة إلى الركاب.
تجاهد الحافلة الصعود عابرة القرى الكثيفة بالسكان من برقايل إلى قبعيت وحرار ووصولاً إلى فنيدق، ومع بلوغ منطقة القموعة تنحو الصورة للاختلاف، حيث يصبح الأخضر هو اللون المسيطر، وما هي إلا دقائق حتى يصل إلى أعالي جرود مشمش، وحينها ينسى الزائر مشقة الرحلة التي استغرقت حوالى الساعة ونصف الساعة، حيث يجد في استقباله وداعة لوحات سماوية صادمة لشدة جمالها، مكتشفاً المعنى الحقيقي لمفهوم السحر البصري.
يترجل الركاب من الحافلة ويبدأ المسار المتعدد الصعوبات، متفقدين جعبهم وأغراضهم، فلا طريق للخروج إلا على بعد خمسة كيلومترات من خط الانطلاق.
وعلى طول تسعة كيلومترات من المسارات الطبيعية يستكشف المشّاء الأشجار المعمرة ويلامس جسده الأعشاب البرية العملاقة، كما يعايش المرء جوانباً مختلفة من الحياة الريفية، وبعد أول كيلومتر يبدأ بتعلم أهمية الصبر وضرورة توزيع المجهود ومقاومة النهم إلى الماء والطعام خلال السير، كما يزداد إعجاباً بجلد وصلابة مجموعة المرافقين من كبار السن.
في انتظار استراحة منتصف الطريق يحرص الدليل عبد القادر عبد المجيد على تلطيف الأجواء مردداً عبارات التشجيع وأبيات الزجل وأغاني وديع الصافي التي تمتدح جمال البلاد ورسوخ اللبناني في أرضه، مكرراً "لا يوجد مثيل لجمال هذه البلاد وتنوع تضاريسها والغنى الثقافي لشعبها".
وفي موازاة حقنة "النوستالجيا" إلى لبنان يبرز التأثير الشديد للطبيعة الخلابة في الأنفس فهو بمثابة "المسكن" لأفئدة المشاة، لتتداخل تغاريد العصافير وصدى أصوات الكائنات البرية مع الشهقات والتسابيح التي تترجم شدة الإعجاب من طريق الحناجر.
وبين هذا وذاك يعيش المشاة أجواء احتفالية لرؤية أشجار الكرز المتدلية، ولمجرد ظهور فراشة من هنا أو طير مزقزق هناك قبل ظهور حال عارمة من السعادة عند لقاء قطعان الماشية، ودعوة الرعاة المضيافين إلى الانضمام إليهم وأخذ قسط من الراحة، تبدأ بعدها التساؤلات عن "سر صمود هؤلاء الرعاة في هذه المنطقة الوعرة والمنقطعة عن العالم الحضري".
درب الهرب
تشكل رحلات "الهايكنغ" المزدهرة حالياً في لبنان المتنفس الأخير لمن تبقى في البلاد، وتشكل قصة السيدة عايدة أنموذجاً لتعلق المشاة بموعد الرياضة الأسبوعية، فمنذ أربع سنوات بدأت هذه السيدة رياضة المشي، وسرعان ما أصبحت ملازمة لشخصيتها وسلوكاتها اليومية.
تقول، "أنتظر يوم الثلاثاء من كل أسبوع لأتعرف على الدرب الجديد الذي سنسلكه يوم الأحد، وأبدأ بعدها التحضيرات ليوم الراحة من خلال تفقد التجهيزات والعصا والملابس المخصصة للمشي"، كما تشير إلى أنها "تمضي أحياناً أيام أسبوع بأكملها في المنزل ولا تغادره إلى أي مكان آخر".
وتبحث عايدة من خلال "الهايكنغ" عن راحة نفسية مفقودة في ضوضاء المدينة ولقاء مثمر مع أشخاص اعتادت لقاءهم منذ سنوات، ولا تخفي اهتمامها بهم إذ ينتظر المشاة أسبوعياً الكيك أو صنف الحلوى التي تعدها للرفاق كعربون مودة، كما أنها تتابعهم خلال الرحلة وبعدها لتقديم النصح والإرشادات لتجنب الإصابة خلال المشي أو مواجهة أي شد عضلي أو إرهاق.
وتؤكد عايدة أن " فريق المشي بات أشبه بالعائلة التي تتعاون وتتقاسم الأدوار، كما تطمئن على من يتغيب عن المسير الأسبوعي".
لكل حاجته
خلال الرحلة الطويلة مع فريق "اكتشف عكار" يعثر كل فرد على ضالته، فها هنا فنان تشكيلي ونحات يلتقط الورود وأكواز الصنوبر والنباتات البرية من أجل تكوين لوحة خالدة، وعالم تاريخ يستعيد أمجاد الماضي ويستحضر بناء سفن الفرس من أشجار الأرز واللزاب الذي لا يعيش إلا في أعالي لبنان، فيما يجسد أحد الرجال روح الجماعة فيجمع أعواد الحطب الجاف من أجل تحضير طبق الطعام، وفي مطلق الأحوال يبحث الجميع عن استكشاف قدراتهم الجسمانية، وبالتأكيد الهرب من الواقع المعاش، وراحة نفسية موقتة بعيداً من الأزمات اليومية التي يعيشها اللبناني بأقل كلفة ممكنة، حيث لا تتجاوز كلفة الرحلة 10 دولارات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مزايا "الهايكنغ"
خلال العقد الأخير تحولت "الهايكنغ" إلى رياضة جماعية في لبنان، ويعود الفضل في ذلك إلى مجموعات شبابية أسهمت في نشر الوعي البيئي وعززت مفهوم السياحة البيئية في لبنان، كما قامت بتوثيق الحياة البرية والحفاظ على بعض النباتات المهددة بالانقراض.
وفي هذا السياق يمكن ذكر الجهد الذي قامت به مجموعة "درب عكار" التي بدأت بتنظيم رحلات المشي وانتقلت إلى بذل جهد بيئي وعلمي منظم، وصولاً إلى توثيق أنواع نادرة عدة من أزهار الأوركيد والتوليب وسوسنة البازالت البرية التي تنفرد بها سفوح القرنة السوداء الواقعة أعالي جبال لبنان، وتعيش على ارتفاع 2500 متر عن سطح البحر.
مزيد من مسارات المشي
كما بدأت تنتشر كثير من الممرات على طول سلسلة جبال لبنان الغربية، وفي عام 2019 أطلقت مجموعة من الشبان "درب الضنية" الذي بدأ بمسارات متوسطة قبل بلوغ درب بطول 30 كيلومتراً للمحترفين من جرد النجاص إلى القرنة السوداء التي تعد أعلى قمة في لبنان والشرق الأوسط، نزولاً نحو سد بريصا.
ويشير الناشط عمر حسون إلى دور تلك المجموعات في دعم المجتمع المحلي وتشجيعه من خلال تناول الطعام البسيط لديهم، مشدداً على "الابتعاد من الطابع التجاري والاتجاه نحو المعايشة الثقافية والاجتماعية".