كان الوقت منذ قرابة عام، عندما فاز إيمانويل ماكرون بإعادة انتخابه رئيساً لفرنسا لفترة ثانية وأخيرة. وبإنجازه ذلك، نجح في كسر لعنة أطاحت سلفيه المباشرين من داخل «قصر الإليزيه»، الأمر الذي كان سبباً للاحتفال. ورغم انطلاق نغمات النشيد الوطني الفرنسي وفتح زجاجات الشمبانيا للاحتفال لم تنطلق السفينة في طريقها.
انشغل تفكير ماكرون بأهداف سامية: إصلاح الاتحاد الأوروبي المتداعي، وتوفير القيادة للأنظمة الديمقراطية الغربية، وإنزال الهزيمة بفلاديمير بوتين في أوكرانيا، وبناء جيش أوروبي، وأخيراً وليس آخراً، إصلاح قوانين التقاعد الفرنسي التي تهدد بإفلاس الجمهورية في غضون العقد أو العقدين المقبلين.
وقبيل أسابيع من حلول الذكرى الأولى لفوزه بفترته الثانية في الرئاسة، جرى تذكير ماكرون بواحدة من الحقائق المحورية للحياة السياسية الفرنسية. وتتمثل هذه الحقيقة في فكرة أن ممارسة الحكم تعني دحرجة صخرة نحو أعلى تل، فقط لتراها تسقط ثانية سريعاً بضعف السرعة التي صعدت بها. وأفضل ما يمكنك فعله هو تفادي الصخرة وإشعال سيجارة «غيتان» الفرنسية لتهوّن على نفسك.
اللافت أن إصلاح المعاشات الذي يقترحه ماكرون جاء متواضعاً للغاية؛ فهو يقترح رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً. وتشير تقديرات إلى أن هذا الإصلاح يمس 6 فقط من بين كل 10 فرنسيين. كما أن بمقدور هؤلاء الستة الاستفادة من مجموعة متنوعة من الاستثناءات، بينها التقاعد المبكر فيما يتعلق بأولئك الذين بدأوا العمل قبل سن الـ18. ونظراً لامتداد السن المتوقع، البالغ 84 عاماً في الوقت الحاضر، ومن المتوقع أن يصل 90 عاماً في غضون عقد، فإن رفع سن المعاش عامين لم يكن من المفترض له أن يثير هذا التسونامي من الغضب الشعبي، خصوصاً أن شعوب جميع الدول الأخرى الأعضاء بالاتحاد الأوروبي تعمل بالفعل لفترة أطول عن نظرائهم الفرنسيين.
إلا أن هذا ما حدث على أرض الواقع، وظهرت عبارات، مثل «يسرقون عامين من عمرك»، و«عامان آخران في العبودية»، على الجدران، في الوقت الذي وحدت فيه الاتحادات العمالية المنقسمة على نفسها في العادة، صفوفها، ونظمت سلسلة من الإضرابات، علاوة على اعتصامات لإصابة البلاد بالشلل.
ودعا فيليب مارتينيز (زعيم «الكونفدرالية العامة للشغل» الذي يحمل على وجهه شارباً يتضاءل أمامه شارب ستالين، والذي تقاعد نفسه في سن الـ62) العمالَ الأصغرَ سناً للاستمرار في الإضراب حتى بلوغ سن التقاعد.
بادئ الأمر، حاول ماكرون الاختباء خلف رئيسة الوزراء التكنوقراط المثيرة للإعجاب، إليزابيث بورن. إلا أنه، في غضون أيام، ظهرت بورن شديدة الإنهاك وكأنها خرجت لتوها من مباراة سومو أمام عملاق. ولكون الجمهورية الفرنسية أقرب إلى ملكية رئاسية، سرعان ما بدأت الحشود الغاضبة تطالب برأس السلطة.
وتبدو الفوضى التي ضربت فرنسا، مع حدوث أزمات على صعيد الطاقة الكهربائية، وداخل محطات التزود بالوقود، وإغلاق المدارس والحضانات أبوابها أو تعطيلها عن عمد، وتعرض سلاسل الإمداد للتعطيل، جراء الحواجز الموجودة على الطرق، علاوة على أكوام القمامة المنتشرة بباريس، بمثابة عرض لمشكلات أعمق يعانيها «النموذج» الفرنسي.
ثمة مقولة قديمة حول الديمقراطية باعتبارها منظومة يجري في إطارها اتخاذ القرارات والإجراءات في أماكن لها أسقف، مثل وزارات وبرلمانات، على خلاف الفوضى التي تجري فيها الأمور في الهواء الطلق في الشوارع والميادين وعلى الطرق. ومنذ وقت ليس ببعيد نجحت حركة «السترات الصفراء» من داخل هذه الأماكن المفتوحة في فرض إراداتها على «السلطات» العاملة تحت أسقف بنايات، منها «قصر الإليزيه».
لماذا؟ من بين الأسباب وراء ذلك أن الذاكرة الجمعية الفرنسية تشكلت في جزء منها من خلال الثورات الأربع ونصف الثورة التي شهدتها البلاد على مدار القرنين الماضيين. في كل هذه الحالات، انتصر الشارع بادئ الأمر في مواجهة القصر؛ إما من خلال قطع رأس القائم على رأس السلطة، أو طرده للمنفى. في مايو (أيار) 1968، خلال نصف الثورة المشار إليها سلفاً، فر الجنرال ديغول ببساطة إلى ألمانيا الغربية، حيث تمركزت أفضل قواته. وفي كل الحالات كذلك، لم يدر الشارع ما ينبغي له فعله بمجرد نجاحه في إجبار مَن هم بالسلطة على الفرار.
في مايو 1968، كان باستطاعة المتظاهرين في الشوارع التقدم عبر شارع فوبورغ سانت أونور، والسيطرة على «قصر الإليزيه». وكان بإمكانهم دخول «قصر البوربون»، مقر الجمعية الوطنية الفرنسية، وملء المقاعد الشاغرة للنواب المنتخَبين الفارين، إلا أن المتظاهرين لم يفعلوا ذلك، لأن كل ما يعرفونه هو ابتكار شعارات براقة، وحفر خنادق والتمترس بها في مواجهة عدو لا وجود له.
وتعج المصطلحات السياسية الفرنسية بمصطلحات شبه عسكرية: القتال والحصار والمقاومة، والحصار والانتفاضة والتضامن والجبهة الموحدة والعمليات والهجمات... إلخ.
وقد يجد المراقبون من خارج فرنسا الوضع محيراً؛ لماذا تقدمون أنفسكم ثوريين بينما كل ما ترغبونه منع التغيير؟ لماذا تحاكون الديمقراطية المباشرة بينما تتمتعون بالفعل بأعلى معدل مشاركة في الانتخابات على مستوى الدول الغربية ذات الأنظمة الديمقراطية التمثيلية؟
وتُعدّ فرنسا، التي لا يزال يجري تنظيمها بناءً على مبادئ جان باتيست كولبير في القرن الـ17، الدولة الأكثرَ مركزية واعتماداً على السلطة بين الأنظمة الديمقراطية الغربية. وعليه، لدينا هنا توأمان من النظام والفوضى متورطان في علاقة حب وكراهية في آن واحد.
وربما ينتهي الحال بماكرون إلى فعل كل ما فعله سابقوه، على الأقل في الجمهورية الخامسة: التحرك في حركات التفافية بحيث يحافظ على مظهره، مع إلقاء بعض الفتات لإسكات الشارع. جدير بالذكر أن الرؤساء ديغول وفاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وجاك شيراك تراجعوا عن إصلاحات كبرى في مواجهة الشارع، بل وفعل نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند ما هو أفضل عن ذلك؛ بامتناعهم عن اقتراح أي إصلاحات من الأساس، والحرص على اجتياز فترة الرئاسة في هدوء نسبي.
الملاحَظ أنه في الثورات الكلاسيكية، مثل الثورة الأولى الكبرى التي وقعت في القرن الـ18، تولت قيادة فرنسا من جانب الفئة شبه المتميزة دفاعاً عن الفئات المحرومة في مواجهة الفئة النخبوية عالية التميز. اليوم، تحظى أشباه الثورات الجارية في فرنسا بدعم الطبقة شبه المتميزة الذين يمثلون غالبية السكان، بينما يعاني الفقراء في صمت، ويراقب المتميزون الأوضاع بمزيج من الشعور بالتسلية والرفض.
وفي كتابه «الديمقراطية الفرنسية»، يدعي جيسكار ديستان أن فرنسا ابتكرت نموذجاً جديداً للحكم يقوم على التوازن بين الحرية والسلطة. وخلال مقابلة مع مجلة فرنسية عام 2020، تحسر ماكرون على حقيقة أن «الثورة العظيمة» تركت «فراغاً» في رأس النظام السياسي الفرنسي.
وربما يتعين على الاثنين أن يدرسا جيداً وصف رئيس الوزراء البريطاني، جيمس كالاهان، للديمقراطية باعتبارها «نظاماً يعمل على حافة العجز عن الحكم».