إذا ما تجولت اليوم بأحياء الكويت السكنية قبل أذان الإفطار لوجدت الأطفال وحتى البالغين يحملون أطباقاً شهية لتوزيعها لبيوت الجيران، ويعودون محملين بأطباق أخرى ممتلئة من طعام جيرانهم. وتعد هذه المبادرة الاجتماعية من العادات القديمة التي يعمل بها سكان الخليج بشكل عام في شهر الفضيل، إذ تتناقل الأسر أشهر الأطباق الرمضانية وأبرزها التشريب والجريش واللقيمات، ينقصها الجار لجاره.
ويمتد حضور "النقصة" إلى مناسبات أخرى من العالم، إذ تظهر في الأعياد الدينية والمناسبات الاجتماعية المختلفة مثل الولادة والختان والخطبة، أو عودة مسافر أو حاج، إضافة إلى العزاء والمرض. حيث يزداد اهتمام الجيران والأقارب في المشاركة ولو عن طريق توفير ما يرونه أولوية مثل الطعام والشراب والتعاون معهم.
أحياناً تكون النقصة عبارة عن هدايا مرتبطة بدخول الشهر الفضيل، ولكن أساس النقصة هو تبادل المأكولات والأطباق بين الأهل والجيران، وغالباً ما تكون أطباقاً مصنوعة بالمنزل. ولها مسميات أخرى مثل "النغصة" أو "الطعمة".
النقصة عادة اجتماعية
ومن جهته قال دكتور علم الاجتماع في جامعة الكويت علي الزعبي "النقصة عادة تشتهر في شهر رمضان بين الجيران عندما يبدؤون بتبادل الأطباق كل يوم أو يوم وترك يوم أو مرة كل أسبوع، وتختلف في طبيعة الجيران وقوة العلاقات ما بين الجيران، وتمارس هذه العادة الشعبية في رمضان بكثرة، ولكن في غير رمضان يتم إرسال النقصة في المناسبات أو العزايم أو الفرح أو العزاء، وتوجد "النقصة" هذه العادة في الكويت ودول الخليج والدول العربية، "والملاحظ أنها تمارس بين الجيران الذين بينهم جيرة طويلة وليس من يسكن في الشقق لأنهم متحركون، وتمارس أكثر ما بين الجيران الذين يسكنون نفس الفريج وتكون بين البيوت أو الفلل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح الزعبي أن هذه العادة الشعبية التراثية هي عادة اجتماعية جيدة تعزز من العلاقات الاجتماعية بالتودد والمحبة وتوثق أواصر المحبة، وتجعل الناس أكثر حميمية بين بعضهم وتقربهم من بعضهم أكثر وأكثر.
وأشارت أستاذة في السلك التعليمي فرح الديحاني "لا تقتصر النقصة على حدود الطعام والقماش، بل ترسل أجود أنواع البخور وأجود أنواع القهوة والتمور والطعام، وما زالت ترسل بين الجيران والأهل والأقرباء والأصدقاء، وهذه العادة توطد العلاقات بين أبناء الشعب الكويتي اجتماعياً، فلقد قمنا بإرسال ’النقصة‘ واستقبلنا ’النقصة‘ من الجيران والأهل والأصدقاء، وما زالت العادة مستمرة".
مصطلح النقصة
وعلق المؤرخ الكويتي سالم عبداللطيف المسباح بالقول "إن النقصة من الكلمات القديمة التراثية والصامدة حتى الآن، ولها ذكر قديم في المراجع ومن كبار البحاث والأدباء، ولا أحد يجزم بنشأتها، ولكن نقدر نستنتج قدمها من خلال الربط بين من ذكروها في المراجع وأعمارهم وخلفياتهم البيئية والثقافية والفترة التي عاصروها من تاريخ البلد".
وأشار المسباح إلى أن "النقصة كانت وما زالت تستخدم في الغالب لإهداء الطعام، فيقال طرشت لكم نقصة أو تنقصت لك، ولقد طرأ تغيير بنطق الكلمة، فقد ذكرت في المراجع الموثوقة بالغين (نطقاً) لا معنى، وتحور النطق إلى (القاف) وهذا متفق عليه في الغالب، والآن تحرف النطق إلى (الجيم القاهرية) وهذا برأينا خطأ من باب كثرة التحويرات والتحريفات بما أننا ومنذ القدم حورنا الغين إلى قاف، فكثرة التحويرات هذه تدفع الأمر للخروج عن السيطرة ولا نجزم بصحة هذا السلوك، ومن ناحية أخرى تطور مفهومها من إهداء الطعام الذي يكون بالأساس معمولاً لأهل البيت ولزادهم وينتقص منه، إلى تحديد وجبة محددة غير زاد المرسل ، وتطور أيضاً المفهوم إلى مختلف الإهداءات وليس فقط الطعام.
وعن النطق اللغوي للمفردة، وأضاف المسباح "هناك اختلاف طفيف وهو بين القاف الصحيحة والجيم القاهرية، وهو ليس مرتبطاً ببيئات أم محيطات، بل مرتبط بالعولمة وتداخل اللكنات غير الكويتية واستخدامهم للهجة وعدم إجادتها بالشكل الصحيح وانتشار هذه اللكنة في وسائل الإعلام". وأشار "لدينا أبناء القبائل دارجة لديهم المفردة (طعمة) لنفس المعنى، وهي من المفردات التي يكون انتماؤها للبيئة كبادية وقبيلة ككيان، أكثر من انتمائها لكيان سياسي وهو الدولة، وهذا بالطبع لا يلغي الانتماء بل يعطيه مزيداً من التفصيل لفهم جغرافية بلد ما".
النقصة الإلكترونية
وبعدما كانت النقصة توجد بين السكك والفرجان في الماضي فقط، تطورت النقصة بمفهومها إلى نقصة إلكترونية يتم تحضيرها بأشكال وأنواع مختلفة ومكلفة بأغلب الأحيان بمسمى النقصة، ضمن مشاريع توجد في مواقع التواصل الاجتماعي، ويتم توصيل "النقصة" بالطرق الحديثة مثل شركات وتطبيقات التوصل المعروفة.
وفي حديث معها أشارت مؤسسة مشروع النقصة الإلكترونية "بداية النقصة هي عادة كويتية متوارثة ترمز للمشاركة، وأعتقد أنها قديما كانت مرتبطة بتقديم طبق من وجبة الفطور للجيران والأصدقاء أثناء شهر رمضان المبارك، ولكن بالسنوات الأخيرة نرى تطوراً كبيراً بشكل ’النقصة‘ من حيث الشكل، إذ صار هناك اهتمام كبير واستعداد لها قبل بداية شهر رمضان المبارك سواء من من خلال المحال التي تسعى إلى تقديم أشكال وأنواع مختلفة من النقصات وفق موازنات مختلفة أو الشخص الذي يرغب في تقديم النقصة لأحبابه".
وأكدت "نرى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت عاملاً أساسياً بالترويج للعادات الرمضانية وغيرها، حيث إن المتابع لها يتم تشكيل قناعاته وتوجهاته وفق مدى قوة وتأثير الإعلان، إلى جانب إحياء العادات القديمة الجميلة بكل الوسائل المتاحة".
وختمت "ما زالت ’النقصة‘ بمفهومها العام موجودة لكن بشكل عام زاد الإقبال والاهتمام على اختيارها إلكترونياً، وما نقدر ننكر إن التصوير يلعب دوراً أساسياً في نشر هذه العادات، وبعض منا أخذها على أنها وسيلة جميلة لهدية الغير ومشاركتهم الفرحة بقدوم الشهر الفضيل، ولكن أحياناً المبالغة قد تخرج ’النقصة عن مفهومها الأساسي"