النسر الروسي ذو الرأسين في الحرب

منذ 1 سنة 229

هل بدأ «هجوم الربيع» الأوكراني الذي لطالما جرى الحديث عنه؟

مع وقوف الصيف على الأعتاب، يدور هذا التساؤل في أرجاء الدوائر السياسية داخل أوروبا والولايات المتحدة.

وبحلول الاثنين الماضي، كان محللون عسكريون فرنسيون ما زالوا يحاولون المراوغة حول هذا الأمر. وأمام جمهور تلفزيوني، قال أحد الجنرالات المتقاعدين: «قد يبدأ الهجوم في أجزاء من جنوب شرق أوكرانيا».

إلا أن داخل الولايات المتحدة، ثمة جنرال متقاعد آخر، يدعى ديفيد بتريوس، تحدث بثقة أكبر، وقال في تصريحات لـ«واشنطن بوست» إن الهجوم بدأ بالفعل، معرباً عن توقعه بأن يحقق الأوكرانيون مكاسب كبيرة.

في المقابل، عزف العالم السياسي البارز، جون ميرشيمر، نغمة مختلفة بحديثه عن «انتقال مساحات واسعة من الأراضي»، وتوقع استيلاء روسيا على مساحة كبيرة من أوكرانيا ووضعها نهاية للحرب.

ذكرتني هذه التعليقات بفترة عرفت باسم «اللعبة الكبرى»، عندما دخلت الإمبراطوريتان القيصرية والبريطانية في تنافس على آسيا الوسطى. خلال تلك الفترة، اقتربت قوة روسية من مرو، واحة وحيدة على الحدود الفارسية. ومع تملك الرعب الإمبرياليين البريطانيين، تحدثت الصحافة الشعبية في لندن عن «لحظة مرو» التي يمكن أن تخلف «تداعيات غير متوقعة».

وتساءل سياسيون وخبراء حول ما إذا كان التشاحن حول السيطرة على ذرة من تراب داخل محيط واسع من الأراضي، من الممكن أن يشعل حرباً بين الإمبراطوريتين العظميين.

في خضم ذلك، كانوا يقترفون ذات الخطأ الذي يسقط فيه كثير من المعلقين المعنيين بالحرب في أوكرانيا اليوم؛ الاعتقاد بأن الصراع يدور حول قطعة من الأرض. واقترفت القيادات البريطانية والفرنسية الخطأ ذاته عام 1938، عندما اعتقدوا أن كل ما كان يسعى خلفه هتلر، ما كان يعرف باسم السوديت، جزء من تشيكوسلوفاكيا، حيث شكل عرق الألمان غالبية السكان. حتى عندما رغب هتلر في السيطرة على قطعة أخرى من الأرض، ممر دانزغ في بولندا، كان هناك كثير من أنصار السياسات الواقعية، الذين طالبوا بإرضاء الفوهرر.

وليس من قبيل المصادفة أن يكون شعار الدولة الروسية نسراً برأسين يرتدي كل منهما تاجاً. ينظر أحدهما باتجاه الشرق، نحو مساحة شاسعة تظل فيها ثقافتا المغول والتتار بمثابة بقايا من ماضٍ مجيد. حتى يومنا هذا، عندما ترنو روسيا ناحية الشرق، فإنها ترى أنظمة سياسية واجتماعية تشبه نموذجها الخاص للدولة؛ جمهورية الصين الشعبية ومنغوليا وكوريا الشمالية. حتى اليابان تبدو أقرب قليلاً إلى فكرة الدولة الروسية عنها إلى الديمقراطيات في أوروبا الغربية أو أميركا الشمالية.

يذكر أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت اليابان بحكم الواقع دولة الحزب الواحد. وبالمثل، تبدو جمهوريات آسيا الوسطى التي نالت استقلالها حديثاً، مألوفة لروسيا بنظام افتراضي للحزب الواحد، يتزعمه «رجل قوي».

ومع ذلك، لا ينظر النسران الروسيان جنوباً، مع أنهما لو فعلا ذلك سيران صوراً تبعث على الاطمئنان.

وبعد سقوط الإمبراطورية السوفياتية، بدا النسر المتجه نحو الغرب متألقاً، لكن جحافل الغرب، بخاصة الخبراء والمستثمرين ورجال الأعمال والمتوسطين والأميركيين الذين هرعوا إلى روسيا، قدموا صورة قاتمة لاقتصاد السوق والديمقراطية البرجوازية. ويأتي اليوم فلاديمير بوتين نتاجاً لتلك السنوات المظلمة. وبعد أن بدأ راكباً في قطار بوريس يلتسين، سرعان ما أدرك أنه من خلال اتباع خطاه فقط يمكنه إطالة أمد حكمه.

وعليه، جرى تصميم غزو جورجيا عام 2008، وضم شبه جزيرة القرم عام 2014، لاختبار إرادة الديمقراطيات الغربية، ووضع حد للتقدم المستمر لـ«المد الديمقراطي» نحو الحدود الروسية.

ويخشى بوتين من أنه إذا تحولت أوكرانيا بأنظارها باتجاه «الغرب»، فإن «بيلاروسيا» سوف «تضيع» قريباً هي الأخرى من يد روسيا. في الوقت ذاته، فإن جيل الشباب في روسيا معرض هو الآخر لخطر الانجذاب نحو الغرب. ومع مغادرة أكثر من مليوني روسي، معظمهم من الشباب، البلاد خلال العامين الماضيين، يبدو واضحاً أن هذا الخوف له ما يبرره.

وعليه، فإن الحرب الممتدة التي بدأها بوتين قبل أكثر عن عام لا تتعلق بقطع من الأرض أو غزو أوكرانيا كلها. ومع إدراكه أنه ليس بمقدوره جعل بقية أوروبا مثل روسيا، فإنه يأمل في إنشاء طوق عازل للحيلولة دون أن تصبح روسيا مثل باقي أوروبا.

ويجب ألا تجعلنا الحرب في أوكرانيا ننسى سببها الأساسي؛ أزمة الهوية الروسية. الحقيقة أن روسيا دولة عظيمة، وربما قوية. ومع أنه ليس بإمكانها غزو أوكرانيا بأكملها، فإنها تملك المال اللازم لمواصلة هذه الحرب لسنوات. وبغض النظر عن الكيفية التي ستنتهي بها هذه الحرب، فإن سببها سيبقى. حتى نهاية عهد بوتين قد لا تحل المشكلة التي تكابدها روسيا لأكثر من قرنين حتى الآن.

ولا ينبغي لتركيز الانتباه على ما يجري داخل ساحات القتال الأوكرانية، أن يجعلنا ننسى أن هذه الحرب، مثل جميع الحروب، تقف خلفها أسباب سياسية وثقافية عميقة من المتعذر معالجتها من خلال فوهة البندقية. إن العثور على مكان مناسب لروسيا في أوروبا مهمة ضخمة لا يمكن أن يضطلع بها السياسيون الذين ينصب جل تركيزهم على الدورات الانتخابية القصيرة الأجل، وإنما يجب أن تأتي الإجابة من داخل روسيا نفسها، مع اضطلاع الديمقراطيات الغربية بدور داعم. يجب أن يرى النسر الناظر تجاه الغرب آفاقاً أكثر إشراقاً أمامه. بيد أنه في الوقت الحالي لا يرى سوى حرب لا نهاية لها، بينما يعاين النسر الناظر إلى الشرق اعتماد روسيا المتزايد على الصين.