النتاج وليس الشخص

منذ 7 أشهر 87

العلاقات بين المثقفين لا تختلف كثيراً عن بقية فئات المجتمع، يعتريها ما يعتري الصداقات من حسد ومشاحنات وصراع قوى. لذلك يخطئ من يعتقد أن الصداقة الظاهرية بين شخصين ستجعل نظرتهما لبعضهما إيجابية بالضرورة.

عندما كان جبران خليل جبران رئيساً للرابطة القلمية في نيويورك كان شخصية مهيمنة على الجماعة الأدبية العربية في المهجر الشمالي، ورغم علاقات الصداقة التي تربطه بأفراد الرابطة وعلى رأسهم ميخائيل نُعيمة، فإن الأخير أرّخ لجبران بكتاب عنوانه باسمه «جبران خليل جبران» ونال من شخصيته وتحدث عن سقوطه الأخلاقي كزير نساء يأخذ منهنّ ما يريد ويتخلى عنهن حتى في أوقات الشدة، كما حصل مع الفتاة الفرنسية ميشيل التي تخلى عنها. رأى البعض في شهادة نُعيمة على جبران دليلاً دامغاً على سقوط جبران الأخلاقي، ولكن لم يتساءل أحدهم لماذا انتظر نُعيمة ست سنوات بعد وفاة جبران لينشر غسيله؟

في حال كون نُعيمة صادقاً، فإنه يكشف عن جُبنٍ وتواطؤٍ في صمته عن الجانب غير الأخلاقي في جبران، وإلا فما الذي يجعله ينتظر كل هذه السنوات؟

أما في حال كونه غير صادق، فإن هذا يدل على عدم الوفاء لصديقٍ قد رحل عن هذه الدنيا؟

في الحالتين كلتيهما، لا يمكن الوثوق بهجومِ شخص على شخصٍ ميت رغم كونه كان قادراً على مواجهته في حياته.

قصة نُعيمة وجبران تشبه إلى حد كبير ما قام به غاي سورمان صديق ميشيل فوكو في عام 2021 عندما أدلى بتصريحات تطرق فيها عن ميول فوكو إلى القصر في حادثة حصلت في تونس إبان زيارته عام 1969م. وكما طرحنا السؤال عن نُعيمة، نعيد طرحه عن سورمان، لماذا الانتظار 42 عاماً بعد الحادثة و38 عاماً من وفاة صاحبها ليفضح صديقه؟

نعم، لقد كان جبران متعدد العلاقات، وكان فوكو ميالاً للقُصّر، وهذه المعلومات كفيلةٌ بتهيئة الأرضية لاتهامات نُعيمة وسورمان لجبران وفوكو. غير أننا يجب ألاّ نُغفل الفارق الشاسع في المكانة التي وصل لها جبران وفوكو مقابل صديقيهما، لدرجة أننا نجد غالباً ذكر جبران وفوكو عندما نبحث عن نُعيمة وسورمان، ولا نرى العكس.

فهل هي الغيرة من شهرة الصديق المتوفى الذي يُعرّفون به ولا يُعرّف بهم؟

ما ذكرته أعلاه ليس دفاعاً عن فوكو ولا جبران، ولكنه محاولة لإبراز جانبٍ مسكوتٍ عنه في حالاتٍ كهذه. فعلاقتي مع شخص ما لا تمنحني مصداقية مطلقة عندما أتحدث عنه. ثم إن احتفاء بعض الأوساط بمثل هذه القصص يكشف لنا مستوى الاطلاع على الإرث المعرفي للشخصيات المتناولة. فكثير ممن يهاجم فوكو اليوم لأنه اكتشف أنه شخص يمارس الرذيلة، لم يطلع على كتاباته البحثية في مجالات الفلسفة، والسياسة، وعلم الاجتماع. إن ما يهمنا في ميشيل فوكو هو إرثه المعرفي بعيداً عن ممارساته السلوكية التي لن تغير في حكمنا الأخلاقي عليه كثيراً. فالهوية الجنسانية للرجل كانت معلنة، فهل المعيار الأخلاقي العربي يقبل بذلك؟

أخيراً، لكل من يحتفي بمثل هذه القصص، الأمر أبعد من فضيحة فيلسوف رحل عن الدنيا قبل قرابة الأربعة عقود. لنسأل أنفسنا ماذا قرأنا لفوكو، وما مؤاخذاتنا المعرفية عليه؟ وما مدى استفادتنا من أطروحاته التي تلامس الحياة اليومية كما تلامس الأسئلة الوجودية؟ عندما ننشغل بمثل هذه الأسئلة، لن يكون لمثل هذه القصص المرسلة مساحة كبيرة لتشغل أحاديثنا ونقاشاتنا.