الميزانية والسياسة

منذ 1 سنة 139

أول صدمة حضارية حدثت لي حين انتقلت إلى بريطانيا في مطلع الألفية الجديدة كانت فكرة الميزانية الفردية. يعرف المواطن البريطاني دخله السنوي، ويحسب إنفاقه سنويا، ويراجع بيانه البنكي الشهري ليرى أوجه الصرف المختلفة. فيعرف حجم ما ينفق. مثلا، تشتري كوب القهوة اليومي بأربعة جنيهات إسترلينية، وهي مبلغ عادي للغاية، لكنها تساوي 120 جنيها إسترلينيا بالحساب الشهري، ونحو 1440 جنيها سنويا لفنجان واحد.

معنى هذا أن بإمكان شاب في بداية حياته المهنية، كما هي حالتي وقتها، أن يجدد غرفة في بيته إن قلص من إنفاقه اليومي فنجان القهوة، وتحول إلى إعدادها في المنزل قبل الخروج إلى العمل. بهذه الطريقة أيضا تستطيع أن تضع خطة بسيطة على ست سنوات، تجدد غرفة في المنزل في سنة، وتزور بلدا تحب رؤيته في سنة. على الوجه المقابل، الإهمال في رصد هذه المدفوعات الصغيرة يفوّت فرصا كبيرة. في الوقت الحالي أفاجأ - بالصدفة - أنني مشترك في تطبيقات إلكترونية لا أكاد أستخدمها. المقابل الشهري البسيط لقيمة الاشتراك يمر دون أن يلفت نظري. لكنني في نهاية العام أدرك أنني دفعت ما يزيد على الألف جنيه إسترليني في تطبيقات يمكنني الاستغناء عنها بسهولة، في حين ترددت في شراء جهاز نافع أحتاجه بنفس المبلغ.

حياتنا كلها تمشي على هذا المنوال، لأن حياتنا - إن لم تكن ثرياً بالوراثة - محكومة بثلاث دوائر. كتلة كبيرة لا تستطيع التحكم فيها، وهي الأساسيات. ثم كتلة لها صلة بعلاقتك بالناس، كمظهرك والعزومات المتبادلة، وفي هذه مساحة للحركة، لكن ينبغي ألا تبالغ في التقتير حتى لا تصير منفرا وتفقد علاقتك بمن حولك. ثم الدائرة الأخيرة وهي تتعلق بك أنت وحدك. لا شأن لأحد إن كنت تشرب قهوة أم لا، تدخن أم لا.

سياسة الدول أيضا تسير على نفس المنوال. من التحديات الكبرى في المجتمع الحديث عدم قدرة الأفراد على تخيل المحصلة الضخمة النهائية للفعل الفردي. بمعنى أن الفرد الواحد في حاضرة كالقاهرة، يسكنها عشرون مليونا، لا يدرك المحصلة النهائية للماء المهدر، أو للكهرباء، أو للخبز الملقى فائضا. كما لا يدرك حجم الصرف الصحي والتخلص من القمامة والنفايات، ومقدار الصيانة الواجبة لها. وفي حال غياب هذا الإدراك من الصعب تعديل السلوك.

هذه إحدى المشاكل الخفية للانتقال الكثيف من الريف الذي لا يعاني سكانه من هذه المشكلة إلى الحضر. ليس لأننا لا نعرفها. بل لأن الانتقال الكثيف من الريف إلى الحضر متواكب عادة مع ظروف سياسية تسمح بهذا الانتقال الكثيف. وهي غالباً شيء من اثنين، إما سياسات مدفوعة آيديولوجيا تدفع في اتجاه هذه الهجرة، وإما حركة توظيف مركزية متسارعة أكثر من حاجة السوق، وأكثر من قدرته على استيعابها. السببان مرتبطان بالسياسات الاشتراكية. ذلك أن المانع الوحيد لعدم حدوث هذه الهجرة الكثيفة هو استحالة تحمل قيمتها بقانون العرض والطلب، الذي يرفع قيمة السكن والسلع والخدمات حال زيادة الطلب عليها في مكان معين.

الاشتراكية بسياساتها التكافلية تحيد ذلك الرادع، فتحمل الحواضر ما لا تحتمل. سياسة الدعم لا تجعل الإنسان يشعر بلدغة المال، وهي أفضل توعية متاحة لكي يضبط المرء استهلاكه، التوجيهات اللفظية لا تفعل شيئا. ولأن المعمار هو أفكارنا مجسدة أمام أعيننا، فإن انهيار البنية التحتية، والرصيف، والعمارة السكنية، والطرق، يقطع قول كل خطيب. لا يعدم الإنسان في النقاش الفكري الخروج بحجج جديدة في أي موضوع. بل وتسمية السياسات السيئة بأسماء إيجابية، كالعدالة الاجتماعية. يجعل هذا من الصعب حسم مواضيع الإدارة بالجدل النظري. ومن السهل جدا حسمها بالنتائج، ولكن للأسف، بعد أن يصل الخراب إلى درجة لا يمكن إنكارها.

في الحالة الفكرية للمجتمعات أيضا ما يتعلق بنمط الميزانية. التساهل مع الأفكار الصغيرة المضللة، التي تتبناها تنظيمات كبيرة، لا يضلل في النهاية فردا أو فردين أو حتى مليونا. إنما يشبه تأثير الفراشة. يتحول إلى كتلة كبيرة لا يمكن التعامل معها. خذ مثلا الموقف الذي اتخذه البعض من تحية «صباح الخير». وهي تحية بسيطة تعودنا عليها تتمنى لك ما تنص عليه. فجأة حولتها التنظيمات إلى مجال للصراع والاستعداء. إن قلت لأحدهم صباح الخير رد عليك بلهجة تعليمية «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته». خطوة خطوة تحيد التحية عن غرضها المجتمعي، لكي تتحول إلى دليل على السيطرة، أو إلى الكشف عن هوية المواطن. فإن نبهت وحذرت قالوا لك، يا أخي يتمنى لك السلام والبركة، هل تكره السلام والبركة؟ لا. أحب السلام والبركة. لكن أكره السيطرة والإجبار والتصنيف المجتمعي.

ثم يتسع الموضوع ليصبح خلقا وسلوكا وثقافة. فكأنما يتوجب عليك من الآن فصاعدا أن تفرض سيطرتك في المكان الذي تعيش فيه. ثم يكبر الموضوع ويسافر مع المهاجرين، فنرى أنفسنا في توتر مع مجتمعات جديدة لأن مهاجرين حملوا نفس أفكار الهيمنة الثقافية التي بدأت من تحية الصباح، ولم ينبههم أحد إلى السلوك الحضري، وإلى مركزية السماحة في الأخلاق الحديثة، وإلا انهارت الدولة الوطنية. أضف إلى ذلك ما يقال في دروس تلفزيونية من أفكار تبدو صغيرة، ومأمونة، لكنها تشكل في الأخير طريقة التعامل مع المرأة، والنظرة إليها. أو تتوسع لتشمل فكرة الأحقية في وراثة الأرض. لتتناثر هنا وهناك ويتداولها مواطنون أوروبيون لا يرون في المسلمين إلا أناسا يفكرون في الصراع التالي للصراع الحالي. وقد تسأل نفسك حين تريد دعمهم في قضية كبيرة، لماذا هذه النظرة السلبية؟ والجواب ليس ضخما كما يمكن أن تتوقع. إنما مجرد كلمات مهدرة من ميكروفون أو في فصل دراسي، نظن أنها لا تعني شيئاً.