"كنت أتألم من اصابتي ولكنني لم أتكاسل في عملي أبداً، عندما مررت بتلك التجربة أصبحت أشعر بكل من حولي، بعض المرضى يأتون بدون أهلهم لأنهم ناجيين من الموت مثلي، أرافقهم وكأني والدتهم وأعالجهم، الكثير ممن حولي يثنون على سرعتي ونشاطي ولكنهم لا يعلمون أنني مررت بتجربة صعبة".
منذ بداية الحرب، والمنظومة الصحية بغزة تتعرض لاستهداف شديد من الجيش الإسرائيلي، الكثير من التجارب الصعبة عاشها الأطباء خلال ممارسة عملهم، بعضهم من استقبل خبر مقتل أفراد من عائلته، البعض الآخر اعتقله الجيش الإسرائيلي من مكان عمله، لم تكن رسالة إنسانية يؤديها هؤلاء الأطباء في غزة، بل كانت مخاطرة كبيرة في حياتهم من أجل تأدية تلك الرسالة، عاشت غزة الكثير من الحروب، ولكن لم تشهد عنفًا شديدًا ضد المؤسسات الصحية وكوادرها الطبية بهذا الشكل المأساوي.
الدكتورعمر الزقزوق، يعمل أخصائيًا في جراحة الأطفال بالمستشفى الأوروبي منذ ثمانية أعوام، عاش تجربة صعبة خلال الحرب، عندما استقبل أطفال أخيه في المستشفى، يتحدث عن تجربته خلال عام من الحرب قائلاً" الحرب أثرت في جميع الفئات في غزة، أثرت فينا نحن العاملين في المجال الصحي إلى حد بعيد جداً، نزوح وعمل مع الجرحى وحرب شديدة وقصف وتدمير بيوت ومقتل أفراد من العائلة. تغيرت كثيراً خلال الحرب. سابقًا كنت أعيش مع أسرتي بهناء، وأذهب إلى عملي، نخرج بشكل طبيعي، وننام في بيوتنا، أما الآن فنعيش نزوحًا متكررًا من مكان إلى آخر. تغيرت حياتنا للذهاب إلى أعمالنا في المستشفيات، وتوقف عملنا في العيادات الخاصة، نعمل في حالة طوارئ دائمة، شخصيتي تأثرت بسبب هذا الشيء حيث فقدنا الشغف في العمل والحياة".
يضيف قائلا:" أسكن في مدينة خان يونس، في منطقة تسمى المحطة في شارع 5، قد يكون العالم أصبح يعرف شوارع ومناطق قطاع غزة لأن الحرب أتمت السنة. عندما توغل الجيش الاسرائيلي إل خان يونس في بداية ديسمبر/كانون أول، تفرقنا، ونزحت عائلتي الصغيرة إلى مستشفى الأوروبي حيث أعمل. أما والديّ فنزحوا إلى وسط المدينة، تبقى أخي وأختي الذين اختاروا أن يبقوا في البيت، ظروف أخي مختلفة لديه طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة وله رعاية خاصة لا يتحمل النزوح والتنقل، كان يعتقد أخي بأن الجيش الإسرائيلي سوف يتفهم ذلك، ويتركه سالما في بيته مع أطفاله الثلاثة وزوجته وأختي وأخي وعائلتهم، للأسف قتل أخي وزوجته بعد مداهمة الجنود الإسرائيليين لمنزل العائلة، وأطلقوا الرصاص عليهم أمام أطفالهم، أنا لم أكن أعلم بتلك الحادثة؛ لأن التواصل كان منقطعا وصعبا جدا، اعتقل أخي سالم، تفاجأت بوجود زوج أختي في المستشفى أمامي مع أطفال أخي، كانت صدمة كبيرة بالنسبة لي بأن أخي محمد الذي يعمل في المؤسسات الإنسانية لترفيه ودعم الأطفال أعدم أمام أطفاله".
يضيف قائلا" منذ بداية الحرب وأنا أعمل بظروف استثنائية داخل مستشفى الأوروبي، عائلتي نازحة معي، وكنت أحاول أن أكون الأب والطبيب داخل المستشفى، يشغل تفكيري كل شيء محيط بي، عندما جاء زوج أختي ومعه ابن أخي مؤمن المصاب بعينه وأخويه أحمد وبثينة إلى المستشفى، شعرت بصدمة كبيرة، لم أستطع تقبل ذلك المشهد، حاولت أن أفهم من الأطفال ماذا حدث معهم، كانوا في حالة صدمة والنطق لديهم صعب جدا، اهتميت بمؤمن المصاب، وأجرينا له عملية في عينه. أوصولهم إلى المستشفى بعد إعدام والديهم أمام أعينهم، من ثم أجبروهم على الخروج ليلا من البيت والبحث عن مكان آخر والمبيت في البرد في الشارع، لا يمكن لعقل أن يتقبل ذلك، لكننا عشنا تلك التجربة، وصدمت بها وما زلت لا أستطيع أن أصدق ما حدث".
بعد أن انسحب الجيش من المدينة عاد الدكتور عمر إلى بيته، لكن عدم الاستقرار كان رفيقه، يقول: "بعد إعدام أخي وزوجته في بيتنا، كان من الصعب العودة إليه لرؤية ما حدث فيه، عدنا بعد انسحاب الجيش في إبريل/نيسان الماضي، حاولنا التأقلم على المكان وكأننا لأول مرة نعيش به، لكن التوغل المستمر للجيش في المدينة أجبرنا على النزوح عدة مرات وفي كل مرة نجد آثار دمار مختلفة في البناية حتى أن أحرقها ودمرها ولا تصلح للحياة فيها".
أنا عن صعوبات عمله في المستشفى طوال عام من الحرب، يقول:" المستشفى الذي أعمل فيه يعاني من نقص في الأدوية، لذلك نحن مجبرون على استخدام أدوية بديلة أقل مفعولًا، علاج المرضى ببنج موضعي بدلاً من بنج كامل، وعندما لا يتوفر البنج الموضعي نجبر على إجراء العمليات البسيطة بدون بنج، المستشفيات الأهلية أغلقت بشكل كامل، مستشفى الأوروبي طلب الجيش منه الإخلاء في يوليو الماضي، وتوقف عن الخدمة لمدة شهر ومن ثم عاد للخدمة بأقل بكثير لعدم توفر الأدوات".
يضيف قائلاً:" تعاملنا مع الكثير من الحالات في المستشفى بدون أدوية وأدوات، نقص الكوادر الطبية، عملت كجراح أطفال في مستشفى الأوروبي لمدة 80 يوماً وحدي لنقص الكوادر وانقطاعهم عن المستشفى؛ بسبب النزوح وانقطاع الطريق عن المستشفى بسبب القصف المستمر، بعض الأدوية تدخل من خلال الوفود الطبية، ولكن بعد إغلاق معبر رفح يوجد نقص كبير منها".
يصف الحرب، قائلاً:" بعد عام، أستطيع القول أن الحرب كان مأساة كبيرة على الشعب الفلسطيني، هي ليست حرب فقط، بل عبارة عن إبادة جماعية للمجتمع الفلسطيني بشكل كامل، تدمير للاقتصاد والمباني والمستشفيات الأهلية والخاصة والحكومية، تدمير ممنهج لكل شيء يخص العلم والدين والمستشفيات، في خان يونس أكثر من 60% من المنشآت تدمرت بشكل كامل، إذا لم تتوقف الحرب سوف يكون هناك انهيار كامل للمنظومة الصحية، لا يوجد أمن أو استقرار وغلاء المعيشة وعدم توفر أساسيات الحياة، هذه حرب إبادة، ويريدون القضاء على الشعب الفلسطيني بطريقة ما، أتمنى أن تنتهي الحرب لكي نستعيد الحياة في غزة كما كانت سابقة".
إسراء النقيب (26 عامًا) طبيبة أطفال في مستشفى شهداء الأقصى، نجت من الموت بعد استشهداف الجيش الاسرائيلي لمنزل عائلتها في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، كانت تذهب إلى المستشفى وهي تتألم من الاصابة ولكنها تريد أن تتخطى فقدان والديها واخوتها في القصف، تقول" تخرجت من الجامعة عام 2022 وكانت فرحة كبيرة عشتها مع عائلتي، كان والدي فخور بأنني أصبحت طبيبة، منذ بداية الحرب وأنا أتطوع لخدمة المرضى دون تعب أو ملل، لم أتوقع لحظة بأن يستهدف بيتنا بهذا الشكل، في 11 أكتوبر/تشرين أول الماضي استهدف الجيش الاسرائيلي البنك الوطني المجاور لنا وسقط على بيتنا صاروخ، نجيت من الموت باعجوبة وفقدت خلالها عائلتي، أقرب الناس لقلبي هما والدي ووالدتي واخوتي، عظام يدي تكسرت وبقيت سبعة أشهر لا أتحرك، لكنني كنت أفكر بعملي وأريد العودة له، خضعت لجلسات علاج طبيعي مكثفة لكي أتمكن من تحريك يدي ولكن قبل اتمام شفائي عدت للدوام مرة أخرى من أجل علاج المرضى".
تضيف قائلة:" كنت أتألم من اصابتي ولكنني لم أتكاسل في عملي أبداً، عندما مررت بتلك التجربة أصبحت أشعر بكل من حولي، بعض المرضى يأتون بدون أهلهم لأنهم ناجيين من الموت مثلي، أرافقهم وكأني والدتهم وأعالجهم، الكثير من حولي يثنون على سرعتي ونشاطي ولكنهم لا يعلمون أنني مررت بتجربة صعبة ونجيت من الموت، كنت أتألم كثيراً من يدي ولكني لم أتوقف عن عملي، والدي وصاني بأن أفيد الناس بعلمي، هو جعلني أدرس الطب لكي أخدم الناس ونحن في أصعب مرحلة يحتاجنا فيها المجتمع".
أما عن ظروف المستشفى خلال عام من الحرب، تقول :" الكثير من الحالات تسوء حالتهم المرضية بسبب عدم وجود أدوية ومعدات، منذ إغلاق معبر رفح والأوضاع الصحية تسوء داخل المستشفى، عندما نبدأ العمل يخبروننا بأن المعدات لليوم بكمية معينة لا يمكننا تجاوزها، نحن مجبرون على ذلك لأنه لا يوجد أي مساعدات طبية تدخل للمستشفيات، نحن نستخدم العلاج لأكثر الحالات خطورة، المرضى في معاناة كبيرة لعدم وجود علاج".
تضيف قائلة:" نحن كأطباء بمعاناة كبيرة، نحن نخاطر في حياتنا من أجل العمل، اليوم تم استهداف مسجد مقابل مستشفى شهداء الأقصى، كان هناك بلاغ لإخلاء مستشفى شهداء الأقصى قبل حوالي شهرين، وكنا في حالة رعب من ذلك، كيف سنترك المستشفى وهي الوحيدة التي تعمل في منطقة الوسطى، نحن بحالة صعبة جداً، أبسط المعدات والأدوية معدومة من بينها علاج الالتهابات البكتيرية لا يوجد مراهم لها والناس تزداد حالتها سوء بسبب ذلك، الوضع الأمني غير مستقر والنزوح المتكرر للمناطق مخيف أيضاً، لا يمكننا عيش تجرب الأطباء الذين تم اعتقالهم داخل المستشفيات في الشمال، وفي مستشفى ناصر، لهذا الجميع يكون في حالة قلق مع كل خارطة جديدة للنزوح والإخلاء".
أما عن أحلامها، تقول:" أحلامي أن ينتهي السابع من أكتوبر بخير، أن تنتهي الحرب للأبد، أن يتطور عملي، وأن يكون لدي وظيفة تأمن حياتي؛ لأنه لا يوجد لدي أب وأم يوفرون لي ما أحتاجه، لهذا أريد أن أحصل على وظيفة لكي أوفر بها ما احتاجه لنفسي، أتمنى أن أحصل على الأمان والاستقرار بكل مناحي الحياة"