الآن ونحن نقرأ بين سطور ردّ الفعل الباهت من جانب الرئيس الأميركي جو بايدن، ومثله بهوتاً ردّ الفعل الأوروبي، على اقتحام 2000 من قوات النخبة في الجيش الإسرائيلي مخيم جنين، الذي لا تزيد مساحته عن نصف كيلومتر مربع، ويرتضي سكانه البالغ عددهم حوالي 15 ألفاً من مختلف الأعمار هذا العيش القهري... نتساءل...
هل أطفأ أرييل شارون شعلة النضال الفلسطيني بما اقترفه في حق المنتظرين في مخيم صبرا وشاتيلا في العاصمة بيروت، وغيره من المخيمات الفلسطينية الموزعة على مناطق سُنية وشيعية ومارونية وأرثوذكسية ودرزية، إحقاق بعض العدالة الإنسانية والأممية، وذلك بارتضائهم عوض دولة من النهر إلى البحر، دولة عاصمتها القدس الشرقية، إلى جانب الدولة التي احتلتها أطياف من سائر دول العالم هدية من المملكة العظمى في زمن بلفوري استعماري مسكون بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
الجواب عن هذا التساؤل هو أن الشعلة لم تنطفئ، وأفرزت المزيد، وباتت أجيال الحاضر الفلسطيني أكثر إصراراً على نيْل المطالب غلاباً ما دامت لا تؤخذ بالتمني فقط وبالوعود الأميركية والأوروبية التي تمالئ أكثر منها التزاماً بالمبدئية.
استحضار الفعل الشاروني هو لقول ما معناه إن الذي اقترفه بنيامين نتنياهو في مخيم جنين باقتحام هو الأشد ضراوة منذ اقتحام سابق للمخيم نفسه في عام 2002، وبحقد مضاعف عن ذلك الحقد الشاروني، لن يطفئ شعلة النضال الفلسطيني، وإن جيل الأحفاد في هذا المخيم الذي استملجه أجدادهم وآباؤهم منذ إقامته عام 1948 باتوا أكثر توقاً للنضال بالحجارة أو بالاستشهاد عند الضرورة بفعل عمليات نوعية كتلك التي حدثت في تل أبيب وأحرجت نتنياهو فزادته خروجاً على الأصول. ومن جانب آخر، حملت السلطة الفلسطينية، وقد قارب صبرها على الهوس المستحكم في الحكومة الإسرائيلية على التفكير بقص الشريط الرخو أصلاً، الذي يشد أواصر الدور الأمني والسياسي لسلطة الرئيس محمود عباس، المعترَف به إسرائيلياً ودولياً. وهذا يعني أن جيل الأحفاد من حركة «فتح» المستأثرة بالسلطة الفلسطينية الرسمية سيغدو في ذروة غضبه من الذي يجري مثل جيل الأحفاد في «فلسطين الغزاوية» وفلسطين المخيمات المنتشرة في بعض الربوع العربية.
بدل أن يحاسَب شارون من قِبَل العقلاء في المجتمع الإسرائيلي على ما فعله في مخيم صبرا وشاتيلا ومناطق أُخرى، فإنه كوفئ بتعيينه رئيساً للحكومة في إسرائيل. مثل هذه المكافأة لا يحتاجها نتنياهو الذي مارس فعْله التدميري في مخيم جنين، وهو رئيس للحكومة التي بعض أعضائها من النسيج التدميري نفسه. هنا يجوز الافتراض أن نتنياهو رفع سقف الانتقام بأمل أن تطوي السلطة القضائية ملف الاتهام المعلق الذي في حال انسيابه يمثُل أمام المحكمة وقد تصدر الأحكام بسجنه على نحو ما سبق لرئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت. كما أن نتنياهو اقترف الإثم العدواني في مخيم جنين، لأن الدول العربية التي طبّعت دبلوماسياً واقتصادياً مع إسرائيل، لا تلبي رغبته في زيارتها، وزاده هذا الموقف غضباً، ترجمه بالإثم الذي اقترفه في مخيم جنين، مفترضاً أن القادة العرب غير المرحبين بزيارته لعواصم بلادهم سيعدِّلون موقفهم، ويستقبلون نتنياهو للقول له إن عليه بعد الآن عدم تكرار آثامه العدوانية والتفكير بصيغة العيش المشترَك وعلى نحو ما تنص عليه المبادرة العربية للسلام.
هذه الضراوة عسكرياً وكلامياً من جانب رموز الاحتلال الذي على أبواب دخول الربع المتبقي من القرن تأخذ مداها، وفي كل مرة بسلوك أكثر تسفيهاً للواجب الأميركي - الأوروبي الخجول عموماً، وذلك من خلال تعامل الرئاسات والحكومات في كل من الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبية مع القضية الفلسطينية المعلَّق حسْمها. وعندما لا يصدر من تلك الرئاسات والحكومات ما هو أكثر من الدعوة إلى التهدئة والتذكير العابر بصيغة الدولتيْن من دون تفعيل لهذه الصيغة، هذا في حد ذاته يجعل أهل الحُكْم الإسرائيلي... وبالذات الراهن في شخص نتنياهو وبعض الذين حوله، الذين يضيفون رمي مزيد من الحطب على نار عدوانيته، تجعله يصل في إهانته للشرعية الدولية إلى حد الدعوة إلى اجتثاث صيغة الدولة الفلسطينية.
لقد اكتفى الرئيس بايدن في اللقاء التلفزيوني معه (شبكة «سي إن إن» - الأحد 10 يوليو - تموز 2023) بالقول ما معناه إن وجود متطرفين في حكومة نتنياهو سبب المشكلة، وإن نتنياهو يذكِّره بغولدا مائير. وأما الحل في نظره فأوجزه بعبارة: «إن حل الدولتين لا يزال هو الطريق الصحيحة لوضع حد للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، مع التأكيد على أن التزام الإدارة الأميركية ثابت بأمن إسرائيل...».
لو أن الرئيس بايدن حريص على صيغة الدولتين لكان سمى «مبادرة السلام العربية». بل إن الرؤساء الذين سبقوه من كارتر ونيكسون إلى بوش الأب وكلينتون ثم بوش الابن، يليه أوباما، ثم ترمب، فالرئيس الحالي، حصلوا على فرص عربية كفيلة بتحقيق التسوية الثابتة والمقبولة، التي تغني الشعوب عن جولات متواصلة من الصراع. لكن الرؤساء أولئك لم يوظفوا عملية السلام المتبادَل بين مصر السادات وإسرائيل مناحيم بيغن، وعملية لاحقة بين الأردن وإسرائيل. كما لم يجعلوا من مبادرة السلام العربية بوابة آمنة لحل ثابت. ولأن سلوك تعاملهم كان على هذا النحو، فإن الدول الأوروبية حذت حذوهم. وها هو الاتحاد الأوروبي لا يرى في الذي فعله التطرف الإسرائيلي في مخيم جنين سوى «أنه مؤلم وانتهاك للقانون الدولي».
خلاصة القول إنه بدل التملق الأميركي - الأوروبي لإسرائيل، ومسايرة التطرف، من الأجدى مؤازرة بيد الطيف العاقل من الإسرائيليين، الذين يريدون العيش الهادئ، كما الذي يريده الفلسطينيون الذين ضاقوا ذرعاً بالعيش المذل على أرض أجدادهم وآبائهم، ويتطلعون إلى دولة إقامة آمنة تعويضاً عن كامل الوطن، ما عدا ذلك يعني أن المسلسلين سيستمران على الوتيرة نفسها؛ مسلسل الإقرار الأميركي - الأوروبي بأن الحل في دولتين من دون تفعيل لهذا الحل، ومسلسل النضال من جانب الجيل الفلسطيني الثالث جيل الأحفاد، وتصعيد عنف التطرف الإسرائيلي لإطفاء جذوة هذا النضال. وفي نهاية الأمر، ينتصر الحق الفلسطيني على السالب الإسرائيلي وعلى الراعي الأميركي - الأوروبي لهذا السلب.