المغيّبون في التاريخ والحقيقة المنقوصة

منذ 1 سنة 165

في السنوات الأخيرة عكف بعض المؤرخين على إنتاج بحوث ودراسات تناولت ما تم الاتفاق على توصيفهم بالمغيبين أو المنسيين في التاريخ السياسي أو الاجتماعي وكافة أنواع الفعل الاجتماعي. ويمكن القول بناء على هذه الأعمال إننا أمام حقل خاص ومستقل بذاته في اختصاص التاريخ. وأهم ما في هذا الحقل أنه يمثل نوعاً من المراجعة الذاتية التي يقوم بها التاريخ، وهي مراجعة نقدية تقوم على اعترافٍ وجرأة، حيث إن ما قام بتغييبه التاريخ أو المؤرخون، فإن التاريخ في مرحلة لاحقة، وبفضل مؤرخين آخرين ينصف الفاعلين الذين تم تغييبهم.
إنّ الفكرة المهمة في هذا الحقل الجديد في اختصاص التاريخ هي أن التاريخ لا يحفظ كل شيء، وأن كتابته محفوفة بتوظيف آليات الهيمنة والصراع، الشيء الذي يؤكد نسبية الحقائق التاريخية، وأن كتابة التاريخ تظل عملية مفتوحة ومستمرة وغير قابلة للحسم النهائي.
ومن الظاهر أن إعادة الاعتبار وإنصاف من كانوا ضحايا التغييب والتناسي في كتابة التاريخ من التقاليد العلمية التاريخية التي من المهم أن تسجل حضورها بقوة في كافة الفضاءات العلمية اليوم؛ وذلك لأن الحقائق التاريخية منقوصة ولا بد من سد هذا النقص. ومن ناحية أخرى، فإن كتابة التاريخ نفسها ستعرف تغيراً لتذكر المنسيين واستحضار المغيبين.
وفي هذا السياق، فإن عملية استدعاء الذاكرة التاريخية كاملة يعني إضفاء المصداقية والصدق ومقاومة تزييف الوعي التاريخي.
ولا شك في أن الفضاء الثقافي العربي والإسلامي بحاجة ماسة إلى هذا النوع من الدّراسات القائمة على إنصاف المغيبين في التاريخ لما في ذلك ليس فقط من رد الاعتبار للفاعلين التاريخيين، وإنما لأن وجه الحقيقة التاريخية المكرسة سيتغير، وجزء من مواقفنا وتمثلاتنا وتصورنا للحاضر وتقييمنا للتاريخ قائم أساساً على ما تم تلقيه من حقائق منقوصة.
طبعاً الذي قام بالتغييب إنما هو المهيمن في لحظة تاريخية معينة، وهنا تتضح قيمة بعث توجه يعتني بالمهيمَن عليهم في الماضي ليستعيدوا مقعدهم الطبيعي في فضاء التاريخ، وهو أنبل ما يمكن أن تقوم به المعرفة كتجسيد فعلي للنقد، باعتباره محركاً للمعرفة وضامناً لتقدمها.
إضافة إلى أن إيلاء مسألة المغيبين في التاريخ حقها من الدراسات والبحوث والنشر يصب في جوهر احترام العلماء لذواتهم، والمجتمعات لتاريخها.
لنضرب مثالاً يوضح أهمية إنصاف الفاعلين التاريخيين. وهو مثل يتعلق بمناضلي الحركات الوطنية في البلدان التي عاشت تجربة الاستعمار، ويعد من أكبر المواضيع التي تعرضت لممارسات التغييب. فالنضال الوطني من أجل تحرير الأوطان خضع بدوره إلى أدوات الهيمنة وكتابة التاريخ على نحو يوزع البطولات للمهيمنين وينزعها عن المهيمَن عليهم. بل إننا لن نتفاجأ إذا ما أثبتت الدراسات الراهنة أن الأكثر بطولة كانوا خارج الصورة، وسكت التاريخ عن التقاط صورهم؛ لذلك فإن في إكمال الحقائق التاريخية تصحيحاً للتاريخ أيضاً.
والشيء نفسه في مواضيع أخرى، خاصة تلك التي تتصل بالأفعال الإيجابية في التاريخ الاجتماعي للإنسانية. ونلاحظ أن التاريخ في لحظة الكتابة لا يتسع للجميع، ولا يمتلك روح الإنصاف بالشكل الذي يمكن اكتسابه مع مرور الوقت. وإلى جانب معارك التحرير الوطنية فإن الأمر يشمل مثلاً الحركات النسوية وأيضاً مسارات تحرير المرأة، حيث إنه كثيراً ما يتم التركيز على رموز دون غيرها من الرموز الفاعلة، والتي لا تقل قيمة وفعلاً وأثراً مقارنة بمن توّجهم التاريخ وأبرزهم وأدخلهم الذاكرة الجمعية.
من هذا المنطلق وغيره، نعتقد أنه من المهم جداً في إطار إعادة بناء الذاكرة وتعديلها وترميمها الانخراط أكثر فأكثر في منحى إنصاف من غمرهم غبار التاريخ ولم يحظوا بالاهتمام والترويج. وفي مثل هذا التوجه العام نكون بصدد الدفاع عن فكرة الإنصاف والحق.
كما أن هذا الدرس الذي يقدمه لنا التاريخ، ومن خلاله نكتشف أن الحقيقة منقوصة ولا بد من أن تكتمل ليكتمل النص التاريخي جيداً، يفيدنا من ناحية كيفية التعاطي مع الحاضر، ومحاولة تفادي أثر الهيمنة في كتابة التاريخ ونحته. ومن المهم أن يتحرر المؤرخون اليوم من تأثيرات وسائل الإعلام وتنويع المصادر ومقارنتها. ذلك أن أهم مشكلة تعترض المؤرخ في العصر الراهن هي هيمنة وسائل الإعلام على نقل الأحداث وصياغتها وتركيبها، وهي التي تدير لعبة الضوء والظل والحضور والغياب للفاعلين في المجتمع، سواء كانوا ساسة أو مثقفين أو أي نخبة من النخب. وكل هذا يجعل المؤرخ في الزمن الراهن في ورطة وسائل الإعلام التي بحكم الأجندات فهي تمارس الحد الأدنى من التغييب، مما يحتم على المؤرخ الحقيقي التحري والتقصي من أجل بناء وصياغة الوقائع التاريخية والقائمين بها دون تناس أو تغييب.