المعضلة الأخلاقية

منذ 1 سنة 180

هل تُغني بساطة العنوان عن الاستطراد في الشرح؟

السؤال من أساسيات الفلسفة الأخلاقية؛ فرع الفلسفة الذي يعالج ما يعرف منذ قديم الأزمنة بالصواب والخطأ، أو الحق والباطل. ورغم بساطة العنوان، فإن الأمر أكثر تعقيداً، ويتفرع منه أيضاً «المتاهة الأخلاقية» وربما بمعنى أكثر شمولاً من «المعضلة الأخلاقية» المحدود بخيارين، فوائد أحدهما خسائر لراغبي البديل.

السؤال الفلسفي شغلني، بحكم عملي صحافياً ومؤرخاً، بسبب تعليقات في الدوائر السياسية من وستمنستر إلى كابيتول هيل، والمنابر التعبيرية من الجرائد والشبكات إلى التواصل الاجتماعي. وجوهر السؤال عن التغطية الصحافية، بشتى أنواعها، لحدثين متقاربين زمنياً. الأول موت أكثر من 500 شخص غرقاً الذين دفعوا الآلاف من أموالهم لعصابات تهريب البشر لنقلهم إلى أوروبا، وهم من ضمن حوالي 800 شخص ازدحموا في سفينة صيد غرقت قرب شواطئ اليونان. والثاني، نقل الأول من المانشيتات إلى الصفحات الداخلية، وكأن دراما استمرت لأيام عن غواصة استكشاف موقع حطام أشهر البواخر في التاريخ السفينة تايتانيك، قرب سواحل كندا، وهي الغواصة التي راح ضحيتها خمسة أشخاص.

انهالت الاتهامات على الصحافة التقليدية كشلالات نياغرا من الأطراف والجهات المعتادة والمتوقع منها مناصبة العداء للمجتمع كما اعتدناه؛ وأخرى غير متوقعة. الأولى من التيارات اليسارية، ونشطاء التواصل الاجتماعي من أصحاب نظرية المؤامرة بخاصة في الوسائل المصرية، ووسائل اللغة العربية في منطقة الشرق الأوسط، وأخرى مهووسة «بعنصرية» المؤسسات الغربية لأن غرقى البحر المتوسط أفارقة وآسيويون وليسوا بيض البشرة ومن المسلمين، وآخرون بالحقد الطبقي من التيار الماركسي لأن غرقى الغواصة كانوا من أصحاب المليارات، بتكلفة ربع مليون دولار للراكب، وبقية الأسلحة اللفظية في ترسانة نشطاء هذا التيار. المجموعة الثانية، وإن كان الأمر ليس مفاجأة لأن أغلبه ساسة بخطط مدروسة، انتهزوا الفرصة لترويج بضاعتهم الانتخابية أو الآيديولوجية، من ضمنهم نواب برلمان، وحتى الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، الذي انتقد تركيز التغطية على الغواصة، وركن كارثة موت المهاجرين في خانة الأخبار الثانوية.

وسأتجنب الخوض في مفارقات أخلاقية كانتهازية الساسة أو تعامي النشطاء السياسيين عن الحقائق وانتقائيتهم، فمن ضحايا الغواصة المليونير الباكستاني شاهزاداه داوود (المسلم) وابنه سليمان، بينما انتقى الساسة صحافة تنتقدهم أو تدعم خصومهم في حين أن التركيز على حادثة الغواصة في شمال الأطلسي شملت الوسائل الصحافية من الاتجاهات كافة.

المفارقة الأهم، أننا بصفتنا صحافيين محترفين لا تواجهنا إشكالية أخلاقية بمعايير المهنة، لأن من يحاسبنا القراء الذين يشترون الصحيفة، ومشاهدو البرامج الإخبارية، والمقياس الحقيقي للنجاح يتجاوز مدى إقبالهم أو انصرافهم إلى معرفة الطلب على السلعة الإخبارية في سوقهم. المعضلة الأخلاقية (وليس الإشكالية لأنها بلا حل) أن الذين طرحوا الجدل يلجأون إلى مقارنات غير متكافئة وغير عادلة في التغطية الصحافية، من منظور الفلسفة الأخلاقية وليس من منظور الواقع العملي.

فحادثة غرق سفينة المهاجرين في المتوسط بدأت تغطيتها بعد وقوعها، وكان التركيز على عمليات الإنقاذ، وانتشال الجثث التي عثر عليها وتكهّن الخبراء والمسؤولين بشأن عدد المفقودين. وكالعادة بالمقاييس المهنية كانت التغطية من الشبكات والصحف الكبرى جيدة، وذهب المراسلون إلى جزيرة كلاماتا حيث تنظم عمليات الإنقاذ واستقبال الناجين، وأجروا مقابلات معهم ومع هيئات الإنقاذ، والأطقم الطبية، وتابعوا عملية القبض على بعض أفراد عصابة تهريب البشر (أحدهم هنا في غرب لندن).

الساسة ومحترفو الاحتجاجات، طرحوا المقارنة الأخلاقية من حيث «الكم» أي حجم تغطية الحادثتين، وليس «الكيف»، والأخيرة هي أيضاً من مقاييسنا المهنية، من المدرسة الصحافية الكلاسيكية للصحافة المطبوعة والمساحة المحدودة للخبر، إلى جانب تعمدنا تجنب المتاهة الأخلاقية في تقديرنا للقصة الصحافية.

ولا أدري أي المصيبتين - كإشكالية أخلاقية - أعظم: ساسة كبار ومحترفون، كأوباما مثلاً، جاهلين فعلاً بالاختلافات بين المنظورين الكمي الأخلاقي؛ والقواعد الكيفية التي تحكم العمل الصحافي، أم فعلاً يعرفونها (بخاصة أن كثيراً من المعلقين بينهم صحافيون عاملون ومتقاعدون) ورغم ذلك يصدرون الأحكام الأخلاقية؟

وهناك فارق في نشر خبر بعد وقوع الحادث، وبين متابعة حدث مستمر (كالحرب أو خطف طائرة لا تزال في الجو)، مع ظهور الصحافة الجديدة الإلكترونية والتغطية التلفزيونية اللحظية. أما الصحافة المكتوبة، فكل طبعة مثل حلقة مسلسل درامي، وهو ما حدث فعلاً مع الغواصة المفقودة قرب حطام الباخرة تايتانيك. كما أن ركاب الغواصة الخمسة - وبعضهم من المكتشفين المساهمين في علوم اكتشاف أعماق البحار، أصبحوا شخصيات معروفة للقراء والمتفرجين، ولهم أسر وأصدقاء قدموا صورهم ومعلومات في التغطية المستمرة (وهي قاعدة صحافية مهمة في التغطية)، مع عامل التشويق من الغريزة الإنسانية، وهي الرغبة في إنقاذهم قبل نفاد الأكسجين في الغواصة (مدة أربعة أيام)، غريزة تشارك فيها عناصر القصة الثلاثة: شخصيات الحادثة، والمتفرجون والقراء، والوسيط، أي الصحافيين أنفسهم.

السؤال الأهم، أطرحه مهنياً من تعريفي للخبر الصحافي «معلومة تريد جهات ما إخفاءها، وغير ذلك مجرد إعلانات»، فيكون بشأن كشف أي تقصير لإنقاذ السفينة الغارقة، أو لنشاط مهربي بشر من جانب الجهات الأمنية.

والسؤال يمتد أيضاً إلى الغواصة بشأن التقصير في الصيانة.

الأخلاقيون المحتجون لم يطرحوا هذا السؤال!