عرفت مدينة جدة بتاريخ قديم تناقلته الروايات وسطرته الكتب، وتشهد المنطقة التاريخية على ذلك، حيث تحتضن أربع حارات قديمة داخل سورها، إحداها "حارة المظلوم".
إنها المحلة الواقعة إلى اتجاه الشمال الشرقي في المنطقة التاريخية بالمدينة، وبها مسجد الشافعي وسوق الجامع، ويثير اسمها لدى السامعين سؤالاً وجيهاً عن سبب تسميتها به وعن حقيقة هذه الحارة.
حكاية الأغوات
اختلفت الروايات والحقائق حول أصل تسمية حارة المظلوم في جدة، ويتناقل الرواة والمهتمون بالتاريخ كثيراً من القصص في شأنها منها روايتان شهيرتان إحداهما طرحتها الأكاديمية في جامعة "أم القرى" سحر دعدع خلال حديثها عن تاريخ الأغوات إلى "خليجية"، قائلة "وقعت فتنة عام 1134 هـجرية بين أغوات المدينة ورجال حاميتها من العسكر حين أراد رجال من توابع الأغوات، وكانوا من أصحاب الجاه والمكانة الاجتماعية في المدينة، الدخول في سلك الجندية، فحيل بينهم وبين ذلك، وغضب لأجلهم الأغوات واعتصموا في المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وحاول قاضي المدينة إصلاح الخلاف بين رجال الحامية والأغوات، لكن الأخيرين رفضوا حضور جلسة الصلح، مما اعتبره القاضي عصياناً فطلب قتلهم وأبلغ شريف مكة بالحادثة وبعث الشريف إلى السلطان بتفاصيلها وصدر حكم بفصل عدد من الأغوات ونفيهم عقوبة لهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وزادت دعدع "تواصل الأغوات مع السلطان موضحين أنهم مظلومون، وبناء على ذلك ألغي الحكم السابق وأعيد الأغوات إلى عملهم وقتل المتسببون من رجال الحامية، وكان من ضمنهم عبدالكريم البرزنجي الذي هرب من تنفيذ الحكم إلى جدة، فيما نفذ الإعدام في حق المتبقيين".
وبينت دعدع أن والي جدة تمكن من القبض على البرزنجي فسجنه وأعدمه شنقاً وترك جثته طوال اليوم، لذلك سميت الحارة "المظلوم".
روايات أخرى
أما الباحث والمؤرخ خالد صلاح أبو الجدائل، فأكد لـ"اندبندنت عربية" أن سبب تسمية الحارة بهذا الاسم ليست له علاقة بـ"أغوات"، مشيراً إلى أن المباني في محلة المظلوم مشار فيها إلى اسم الشيخ عبدالله المظلوم (عفيف الدين) وموضحاً أن الاعتقاد السائد لدى الأهالي والمهتمين بجدة التاريخية حتى عهود قريبة بأن بداية تسمية محلة المظلوم تعود لعام 1134 للهجرة وأن سبب تسميتها يعود للشيخ عبدالكريم برزنجي، وهو من أهالي المدينة المنورة حكم عليه بالإعدام فيها بتهمة إثارة الفتن، وفي طريقه إلى مدينة جدة قتل وعثر على جثته في هذا الجزء من المدينة جدة عرف في ما بعد بمحلة المظلوم كما تقول بعض الروايات، إذ قام الأهالي بغسله والصلاة عليه ودفنه، وإيماناً منهم ببراءته سميت المنطقة محلة المظلوم.
وأضاف "الحقيقة أن مصادر تاريخية أخرى تجزم بأن تسمية محلة المظلوم بهذا الاسم يعود لزمن أقدم من ذلك التاريخ بما يقارب قرنين من الزمان"، وذكر أربعة مصادر تثبت ذلك، الأولى "الفضل المزيد على بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد" لوجيه الدين عبدالرحمن بن علي بن محمد بن عمر الديبع الشيباني، إذ ورد ذكر قبر الشيخ عبدالله المظلوم في حوادث عام 910 للهجرة، وهناك إحدى المخطوطات لدى تأليفها أشارت إلى أنه ما زال على قيد الحياة، وهي المخطوطة المصرية.
أما المصدر الثاني، بحسب أبو الجدائل، فهو "نيل المنى بذيل بلوغ القرى لتكملة إتحاف الورى: تاريخ مكة المكرمة من سنة 922 هـ إلى 946 هـ"، من تأليف جار الله بن العز بن النجم بن فهد المكي، ووردت في حوادث عام 927 للهجرة قصة حريق أحد المراكب التي تعود لأحد النواخذة والخواجا السقطي، وأنهم استهتروا بالشيخ عبدالله المظلوم المدفون بجدة وأن خادمه جاء إلى الخواجا السقطي وطلب منه بعض النذور ولم يستجب، وهذه رواية تدل على وفاة الشيخ عبدالله المظلوم.
المحلة والمدينة والحارة
المصدر الثالث هو "السلاح والعدة في تاريخ بندر جدة" لـعبدالقادر بن أحمد بن محمد بن فرج الشافعي الذي أورد أنه كان في هذه المنطقة رجل صالح محبوب عند الأهالي اسمه الشيخ عفيف الدين عبدالله المظلوم، وكذلك قوله "وفيها من الأولياء المشهورين بالصلاح الشيخ عفيف الدين عبدالله المظلوم، وبعد وفاته سميت الحارة باسمه من باب تسمية الحال". وأشار إلى أن موقع قبره كان داخل السور من جهة الشام، وفق أبو الجدائل.
أما المصدر الرابع، بحسب الباحث والمؤرخ، فهو "نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس" من تأليف السيد العباس بن علي بن نور الدين الحسيني الموسوي المكي، وذكر في الجزء الثاني من الكتاب في الصفحة رقم 327 خلال زيارته لجدة ما نصه "وبها ضريح الولي الشهير القطب الكبير الشيخ المظلوم نفعنا الله به".
وختم أبو الجدائل حديثه بالقول "تعد محلة المظلوم القلب النابض لجدة التاريخية بموقعها الجغرافي في وسط محال جدة الأخرى، وهما الشام واليمن"، مشيراً إلى أن هناك فرقاً بين مصطلحي "محلة" و"حارة" بأبسط العبارات وأوجزها، فالمحلة جزء رئيس من المدينة، أما الحارة، فهي جزء من المحلة، لذلك تجد في محال جدة قديماً حارات كانت معلومة لمن عاش في تلك الفترة ولم يبق منها سوى حارة البحر التي هي جزء أصيل من محلة اليمن.