لا يزال ريتشارد فلاكس يذكر التحديات التي وقفت في طريق بناء حركة احتجاجية خلال حرب فيتنام، كأحد أعمدة المجموعة السياسية اليسارية المناهضة للحرب «طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي» خلال ستينات القرن الماضي.
وقال فلاكس، الذي ساعد في كتابة بيان المجموعة الذي عُرف باسم «بيان بورت هورون»، عام 1962: «بدأت فكرة (طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي) برمّتها باعتقادنا أننا بحاجة إلى طريقة جديدة لنكون على اليسار، وكذلك حاجتنا إلى مفردات جديدة، واستراتيجية جديدة. كنا نعلم أننا على حق، ولا أعتقد أن هذا الشعور كان نتاج غطرسة بداخلنا».
وبعد مرور ستين عاماً، ترى إيمان عابد، اليوم، تحديات مماثلة في خضمّ الحرب الدائرة داخل قطاع غزة بين إسرائيل وجماعة «حماس». وأضافت عابد، مديرة شؤون التنظيم في الحملة الأميركية لحقوق الفلسطينيين، التي تعمل مع منظمات داخل الحرم الجامعي مؤيدة للفلسطينيين: «على مدار فترة طويلة، لم نتمكن من جعل فلسطين القضية التي يهتم بها الناس، لكنهم الآن أصبحوا يهتمون بها لأنهم يرونها ويشاهدونها عبر وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهم. ويشاهدونها كذلك في الأخبار».
لا يزال من السابق لأوانه أن نعرف ما إذا كان الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني سوف يميز هذا الجيل، كما فعلت معارضة حرب فيتنام في الكثير من الشباب قبل أكثر من نصف قرن.
ومع ذلك، فإنه فيما يخص الكثيرين ممن الذين درسوا أو عايشوا حقبة حرب فيتنام، تبدو أوجه التشابه مع الاحتجاجات المرتبطة بغزة جلية: جيش قوي يُمطر حالة من الدمار الجوي على مساحة صغيرة من الأرض، مما يثير انقساماً بين الأجيال حول أخلاقيات الصراع، ويتنامى مع ذلك الشعور بأن الحرب تمثل تيارات سياسية وثقافية أوسع بكثير، إلى جانب خلق ثقة لا تتزعزع -أو قد يقول النقاد قداسة- في صفوف الطلاب بأن قضيتهم عادلة.
ومع ذلك، ثمة اختلافات صارخة، بدءاً بالهجوم الذي شنته «حماس»، الذي أدى إلى اشتعال هذه الحرب، ولا يوجد شيء تمكن مقارنته به فيما يخص فيتنام. الحرب بين إسرائيل و«حماس» لا يخوضها الجيش الأميركي، على عكس حرب فيتنام، حيث مات أكثر من 58000 أميركي وواجه الشباب التجنيد العسكري.
من جهته، رأى مايلز رابوبورت، المسؤول السابق بولاية كونيتيكت، الذي انضم إلى «طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي» في أثناء دراسته بجامعة هارفارد في الستينات، أوجه تشابه، لكنه قال إن الحركتين واللحظتين تختلفان بطريقة جوهرية. وقال إن تورط الولايات المتحدة في فيتنام جاء في خضمّ استعراض غطرسة من جانب القوة العظمى. وأضاف أن إسرائيل تقاتل من أجل وجودها بعد المقتلة التي أودت بحياة 1200 مواطن، مؤكداً أن الحرب الحالية «تحوي الكثير من الفروق الدقيقة الأخلاقية والفلسفية».
وينعكس هذا في المَسيرات والمظاهرات المؤيدة لإسرائيل بدرجة أكبر بكثير الآن مما كان شائعاً، خصوصاً في الجامعات، بين مؤيدي الحرب خلال حقبة فيتنام.
ومع ذلك، قال رابوبورت إن كلتا الحركتين تعكسان «نوعاً من التضامن الغريزي والمبدئي مع المستضعفين»، وأضاف: «إلى جانب ما يرتبط به من شعور بالتضامن مع الأشخاص الذين يقاتلون من أجل أن يكون لهم بلدهم الخاص، والتحرر من نوع من الوجود الاستعماري».
لقد خرجت الجامعات الأميركية في مظاهرات لأسباب لا حصر لها منذ حرب فيتنام، لا سيما لمعارضة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والظلم العنصري بعد مقتل رجال ونساء سود على يد الشرطة في عامي 2014 و2020، ومع ذلك، فإن الاحتجاجات المستمرة المناهضة للحرب مثل تلك الاحتجاجات ضد غزو غزة لم نشاهدها من قبل منذ عقود.
من جهته، يعقد لون تران، أميركي - فيتنامي، 28 عاماً، ويتولى منصب المدير الوطني لمجموعة «الأغلبية الصاعدة» اليسارية، مقارنةً بين فيتنام وغزة. كان جد تران، الذي لم يلتقِه قط، جندياً أميركياً في أثناء الحرب، في الوقت الذي قاتل أصدقاء جدته من أجل فيتنام الشمالية ضد القوات الأميركية.
وقال: «عندما أسمع الفلسطينيين يعقدون مقارنات مع فيتنام ودور الولايات المتحدة والاستعمار، يذهلني ذلك حقاً، وهي علاقة مؤثرة بالفعل. أشعُر بذلك في جسدي، والكثير من الناس في مجتمعنا الفيتنامي يشعرون به في أجسادهم؛ أن نقاوم الحرب، وأن نقاوم الاحتلال».
فيما يخص منتقدي الاحتجاجات الداعمة لغزة، تعكس الحركة الحالية تجاوزات، وليست فضائل، الاحتجاجات السابقة ضد الحرب في فيتنام، مع إطلاق هتافات تدعو إلى إبادة جماعية ضد الشعب اليهودي، مثلما سبق أن حدث في احتجاجات الستينات وأدى إلى نفور الكثير من الأميركيين، بسبب دعمها فيتنام الشمالية ضد قوات الولايات المتحدة. وبالمثل، يتهم هؤلاء النقادُ المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين بالنفاق، قائلين إن الكثير من المَسيرات تتضمن قضايا جانبية من شأنها أن تتعارض مع المواقف الأخلاقية للكثير من الفلسطينيين، مثل قضايا المرأة وحقوق المثليين.
وينظر الكثير من مؤيدي إسرائيل إلى الحركة الاحتجاجية بمزيج من الرعب والذعر. في هذا الصدد، قال كينيث إل. ماركوس، رئيس «مركز برانديز لحقوق الإنسان بموجب القانون»، مؤسسة يهودية للحقوق المدنية غير ذات صلة بجامعة برانديز، إن المظاهرات في الحرم الجامعي انطلقت حتى قبل حدوث الغزو الإسرائيلي لغزة.
وأضاف: «قد يكون هناك بعض الأشخاص المشاركين في هذه الاحتجاجات يعتقدون أنهم يدعمون الفلسطينيين، لكنّ الحركة التي يروّجون لها تشكّل في الغالب حركة معادية للسامية». واتهم الحركة بأن جذورها تكمن في الاحتفاء بالعنف. واشتكى من أنه بدلاً من إظهار القوة الأخلاقية في مواجهة الاحتجاجات داخل الحرم الجامعي، استجاب الكثير من رؤساء الجامعات «بإظهار الضعف والجبن».
في الواقع، يَدين المحتجون على الحرب في غزة لأسلافهم المحتجين ضد حرب فيتنام بإرث واحد: التكتيكات، من الاستلقاء في محاكاة للقتلى إلى الهتافات مثل «كم طفلاً قتلتم اليوم؟»، وهي تكتيكات بثت النشاط في كلتا الحركتين.
عن ذلك، قال فلاكس، أستاذ فخري بعلم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا: «لم يكن أمام الطلاب الكثير ليحاكوه عام 1960، أما اليوم، فقد أصبح الكثير من التكتيكات التي جرى اختراعها آنذاك جزءاً من مجموعة أدوات النشاط في الجامعات».
المؤكد أن لوجيستيات تنظيم الاحتجاجات أصبحت اليوم أكثر قابلية للإدارة مما كانت عليه قبل 60 عاماً، فقد عملت الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي على تبسيط مهام تجنيد ونشر المدافعين عن قضية ما. على سبيل المثال، نزل حشد من المتظاهرين المناهضين للحرب قريباً إلى محطة غراند سنترال في نيويورك، بعد تلقيهم إخطاراً إلكترونياً.
علاوة على ذلك، تغيرت الجامعات -والتركيبة العامة للمحتجين- بشكل كبير، وكذلك الضغوط والمطالب السياسية المفروضة على رؤساء الجامعات.
كانت الحركة المناهضة للحرب في فيتنام ذات أغلبية ساحقة من البيض، مثل معظم الجامعات في الستينات. إلا أن الجامعات عام 2023، خصوصاً في المناطق الحضرية، تحتوي على عدد أكبر بكثير من الطلاب الملونين، ويبدي الكثيرون منهم التعاطف مع وضع الفلسطينيين بوصفهم سكاناً محاصَرين تحت سيطرة قوة أكبر وأشد. كما أن غير الطلاب يشكّلون الجزء الأكبر من المحتجين في الوقت الحاضر.
* خدمة «نيويورك تايمز»