بدأ العد العكسي لإطلالة العام الميلادي الجديد 2023. ومع طي صفحة الأشهر الـ12 المنصرمة وتأهباً لاستقبال الآتي، يجري ترحيل أزمات المنطقة وأزمات العالم، على وقع التوقعات والتخمينات.
بعض هذه التوقعات والتخمينات ينطلق من معطيات رقمية، وإن كانت بعيدة عن الثبات، والبعض الآخر مبعثه افتراضاتٌ وأوهامٌ وهواجسُ وتمنيات، قد يكون أو لا يكون لها ما يبرّرها.
«الحصيلة» الجاري ترحيلُها لعام 2023 يطول بحثها، إذ تتراوح بين تطورات الوضع في أوكرانيا وتداعياته على أوروبا والعلاقات بين القوى الكبرى المعنية، إلى مؤشرات عودة جائحة «كوفيد - 19» إلى الصين وتبعاتها الاقتصادية والتنموية والسياسية المحتملة ليس فقط على الصين، بل على العالم بأسره. وبالتالي، حسبنا التمعن في الأمور الضاغطة على واقع الشرق الأوسط، واستشراف مستقبل الحراك فيه وفق جملة من المعطيات... الدقيق منها والمغلوط والمضلِّل عمداً.
القاسم المشترك في هموم الشرق الأوسط، وتحديداً الجزء الشرقي من العالم العربي هو مآل «المشروع الإيراني» الذي أبصر النور مع فكرة «تصدير الثورة الخمينية» عام 1979.
صحيح ثمة قضايا عديدة أخرى، لعل أهمها ثلاث:
أولاً، عودة اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل، مستعيناً بشراذم خطرة ومقلقة حتى حسب المعايير والأوصاف التعريفية الصهيونية.
وثانياً، الاختبار السياسي الكبير في تركيا للرئيس رجب طيب إردوغان... الذي عبثت رياح المنطقة وأخطاء حساباته بأشرعة سفينته «الإسلاموية» خلال السنوات الأخيرة، وأفقدته بعض الصدقية التي كان يتمتع بها في دول عدة عبر العالمين العربي والإسلامي. والمرجح أن روسيا (الجارة عبر البحر الأسود) والولايات المتحدة (الحليفة في الناتو)، ترصدان باهتمام ما ستتمخض عنه الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في تركيا خلال يونيو (حزيران) المقبل، وما إذا كانت التجربة الإردوغانية بلغت منتهاها أم لا.
وثالثاً، مصاعب التعايش بين التجربة الديمقراطية المطلبية الطريّة العود من جهة، والموروثات العسكرية والمصالح الفئوية الأقوى رسوخاً من جهة ثانية، على امتداد المشرق العربي وما خلفه في شمال أفريقيا، بل وفي العديد من دول العالم الإسلامي... من الجزائر وتونس وليبيا غرباً إلى باكستان شرقاً.
إلا أن «المشروع الإيراني»، في اعتقادي، لا يزال يشكل المحور الأساسي لأحداث المنطقة لجملة من الأسباب، في طليعتها: رقعة امتداده، وحساسية اختراقاته، والتباس المقاربات الدولية حياله... سواءً بالنسبة إلى تعريفه أو التعامل معه.
لا شك، عودة اليمين المتطرف سيخدم «المشروع الصهيوني»، الذي أسس إسرائيل قبل أكثر من 73 سنة، وترسّخ أكثر منذ 1967 ثم «كامب ديفيد»، إلا أن إسرائيل تظل عملياً حالة مواجهة «من الخارج» بين عرب المنطقة - بمسلميها ومسيحييها - و«كيان» أسس ليكون «وطناً لدين معين». ومن ثم، فإن غلاة «الدولة اليهودية»، بمن فيهم الساعون إلى التهجير والاقتلاع، لا يريدون إطلاقاً «تصويب» معتقدات جيرانهم العرب أو «تغييرها» أو فرض الهوية الإسرائيلية عليهم. بل العكس تماماً هو الصحيح، إذ همّهم التمييز والقطيعة وبناء جدران الفصل والعزل.
في المقابل، «المشروع الإيراني» المتجسّد بتصدير الثورة في عموم المنطقة يقوم على عناصر تستحق التوقف عندها، أبرزها:
- إعادة تعريف الهوية الإسلامية، وهنا لا أقصد فقط التفرقة بين الشيعة والسنّة و«شيطنة» السنّة، بل أقصد حتى تعريف التشيّع نفسه.
- إلغاء «الهوية العربية»، ومدّ الفكر الخميني وتنظيماته الأمنية والسياسية والاقتصادية عبر الأراضي العربية المُستتبَعة - بل المحتلة - في مناطق الخليج والعراق وسوريا ولبنان واليمن بحجة «تحرير القدس» و«استعادة فلسطين». وبضمن هذا الشق، رأينا التغيير الممنهج لهويات بعض هذه الكيانات عبر تهجير الملايين وعمليات التوطين المعاكس.
- تدمير الإمكانات الإنتاجية والموارد الطبيعية للكيانات التي تسيطر عليها ميليشيات «المشروع الإيراني»، وإلحاق اقتصاداتها باقتصاد إيراني سيئ التخطيط والإدارة مخصص لخدمة مصالح دولة «الولي الفقيه».
حتى اللحظة، يمسّ هذا «المشروع» مباشرة ما لا يقل عن أربع دول عربية إلى جانب قطاع غزة. ويهدّد معظم دول المشرق العربي عن طريق التأجيج المذهبي والطائفي، وتأسيس الخلايا الإرهابية، وشبكات تهريب المخدّرات المصنّعة في مناطق احتلال ميليشيات «أصحاب المشروع» ورعايتها. ولكن مع هذا، مقابل وجود إدراك جدّي لحقيقة هذا «المشروع» ومخاطره، ثمة جهات و«شوارع» عربية ما زالت تصدّق أن قيادة طهران تريد حقاً بناء الثقة وحُسن الجوار مع «جيرانها» العرب، وأن مناها التعجيل بـ«تحرير القدس» لولا «تعطيل» بعض العرب المَسيرة «الزاحفة» - على أنقاض بغداد والموصل وحلب وحمص وبيروت - باتجاه فلسطين.
هذا الوضع المضحك المبكي يظل جزءاً، ولو مهماً، من أزمة أكبر. ذلك أن ثمة قوى كبرى مؤثرة في المجتمع الدولي ما زالت رافضة التعامل مع «المشروع الإيراني» كما هو، بل يرى بعضها في المناشدات العربية لها للتدخل استغلالاً أو توريطاً أو هرباً من المسؤولية.
نعم، لا تزال بعض القوى الغربية الكبرى، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وحتى ألمانيا، حريصة على فصل الأزمات البنيوية التي تعاني منها الكيانات «المحتلة» أو «المستتبعة» عن «المشروع الإيراني» المتكامل منذ 1979. ولئن كان ابتكار «الإرهاب السنّي الداعشي» ورعاية طهران له قد نجح في ضرب زخم الانتفاضة الشعبية السورية، وإكساب ميليشيات «الحشد الشعبي» شرعية زائفة للهيمنة على الحكم في العراق، فإن التغاضي عن تأمين غطاء مسيحي لميليشيا «حزب الله» أدى الغرض نفسه تقريباً في لبنان. وحتى في اليمن، يثير القلق إصرار بعض المرجعيات الدولية على التركيز حصراً على البُعد الداخلي للانقلاب الحوثي... وتجاهل مركزية الدور الإيراني فيه.
اليوم نسمع نغمة جديدة على وقع الاحتجاجات الشعبية الإيرانية مؤداها أن طهران وأدواتها في المنطقة قرّروا العودة إلى لغة «الاعتدال» و«الحوار»، وأن الحكم الإيراني مُحرَج ومُحبَط... وبالتالي، لا بأس من استغلال هذه الفرصة للحصول منه على تنازلات.
وبالطبع، هناك سذّج متحمّسون لتصديق هذا الطرح، لكن الذين يعرفون طبيعة هذا النظام منذ حكاية «تجرّع السم» الخمينية... يعرفون أن المسألة ليست بهذه البساطة، وأن النمر لا يغير جلده.
إن نسبة التضليل المدعوم دولياً كبيرة جداً... والحذر اليوم وغداً وبعد غد أكثر من واجب!