المرحلة المرقطة

منذ 1 سنة 196

لا أذكر على وجه الضبط متى بدأت مشكلتي مع العسكر والسياسة. ففي سنوات الفتوة نتعلّم أنهم أبطال بالحروب ونبلاء بحالة السلم، وكان بعضهم يحمل القامة النبيلة مثل «أميرالدي»، وأمير الجند، تقديراً للمهام الرفيعة في حياة المدنيين وسلم الأوطان. وفي الحرب العالمية الثانية لمعت أسماء كثيرة من أصحاب البزّات العسكرية، ليست في الحروب، وإنما في الإنجازات الإنسانية. أحب أن أقول إن موقفي من الأنظمة العسكرية التي اختطفت العمل السياسي، ليس مرضياً. وأنا مثل كل الناس أحكم على الرجل وليس على البزّة التي يرتديها، أو النجمة، أو الشريطة التي يعلّقها. وقد أصبح لنا من التجارب مع الأنظمة العسكرية في العالم العربي ما يكفي لتحديد موقفٍ مثبت ومسند مما فعلوه بالأمّة. ولست أعني بذلك على الإطلاق الهزائم العسكرية التي ألحقوها بشعوبهم، فهذا ينطبق على منطق الربح والخسارة والحظ وسوء الحظ. والهزيمة ليست حكراً على العرب، ولا على عسكرهم، فها هو نابليون بعدما سيطر على أوروبا برمّتها يُهزمُ في آخر معاركه بسبب تقيّد أحد جنرالاته الأعمى بالأوامر. نتحدثُ هنا عن العسكر الذين أساءوا إدارة الحكم المدني واستخدام القانون، وفشلوا فشلاً رهيباً معيباً في الاقتصاد، والتعليم، والتنمية. وأعاقوا مسيرة الشعوب والأجيال، مخلّفين أكداساً من الشعارات الفارغة والألفاظ السقيمة والتبريرات المرَضية والمريضة.
لم يتركوا لنا تجربة واحدة نعتزّ بها أو ندافع بسببها عن تسليم الثروات والمقدّرات والطاقات لمجموعات من المغامرين والمقامرين بسيادات الدول ورفاه الشعوب. يؤسفني، متحدثاً باسم الناس العاديين أمثالي، أن العسكر علمونا أيضاً ألا نثق بوعد يقطعونه، أو كلمة، أو حتى قسم يؤدّونه. التجربة الأخيرة في السودان لم تخدعني لحظة واحدة، تماماً مثل تجربة عمر البشير من قبل، أو تجربة النميري. ودليلي الدائم على أن المسألة في الرجل لا في البزّة، هو ذلك «الذهبي» الجميل النبيل الكبير الخُلق الربعي القامة، سوار الذهب.
لكن ليس في كل زمن نُعطى مثل هذا المعدن من العمالقة. المؤسف أن تاريخ العسكريين في السودان وغيرها، لا يعدُ بشيء. عندما قيل إن العسكر والمدنيين سوف يتقاسمون السلطة في الخرطوم إلى حين، كتبتُ أن ليس من عاداتهم أن يتقاسموا شيئاً مع أحد، ولا أن يعطوا المدنيين أي حق من حقوقهم، ما داموا يخاطبونهم من أعلى الدبابة. ومع ذلك قال العرب جميعاً في دواخلهم، فلنجرّب لعلّ وعسى. وكانت النتيجة أنّه بدل الاستمرار في التقاسم التقليدي بين عسكري ومدني، عدنا إلى أوائل الستينات والحرب بين عسكري وعسكري، وبين ثكنة وثكنة، والمؤسف أن أطيب الشعوب العربية لا يلقى من حظ سوى الثياب المرقطة.