في فيلم "كفر ناحوم" للمخرجة نادين لبكي، يرفع الطفل زين (12 سنة) دعوى قضائية ضد والديه، مطالباً القاضي بعدم السماح لهما بالإنجاب مجدداً، لكي يجنب المولود الجديد (شقيقه الذي لم يولد بعد) مصيره المضني في الحياة. ووفق موقع الكاتبة الفلسطينية نادية حراحشة، فإن العمل جسد تماماً مبدأ لوم الضحية في المجتمعات الشرقية، إذ تجاهل دور المجتمع الاستهلاكي في تشكيل آفة الفقر والعوز والحروب التي تنتج منها أزمات النزوح واللاجئين، وذهب مباشرة إلى محاكمة الضحية ومحاولة إخضاعها عنوة لسلطة ما، ويكون دورها أن تحد بالقوة من تأثيرات أعمالها الطائشة على بقية أفراد وطبقات المجتمع. وتقول حراحشة عن ذلك، "في أفلام لوم الضحية المشاهدة بمثابة عملية قتل وحشية أمام المتفرج وزهق أرواح أمام عينيه".
جريمة لوم الضحية
لم يصل علم النفس والقانون بعد إلى تسمية واضحة لهذه النظرية، إذ يتداولها الناس حتى يومنا هذا تحت عناوين وتسميات مثل "مبدأ" أو "فكرة" أو غيرها من الأسماء، في حين أنه نتج منها كثير من الجرائم في حق الإنسانية عموماً والنساء والأطفال خصوصاً.
وتعد جريمة لوم الضحية مركبة، إذ تجعل الضحية شريكة فيها، بل إن الجاني في هذه الجريمة وصل إلى مرحلة من الدهاء والمعرفة والتعليم تخوله استغلال هذا القصور العلمي والقانوني في تفسير الجريمة وتأطيرها قانونياً بشكل واضح لا لبس فيه، ليلاحق ضحيته بعد ارتكاب فعلته المشينة. يحدث ذلك يومياً، كما في كثير من جرائم الاغتصاب والتحرش. وتقول الدراسات إن الناس أصبحت ميالة بالفعل إلى عدم تصديق الضحية في مثل هذه الجرائم.
بداية الجريمة
في عام 1965 قدم السياسي والكاتب وعالم الاجتماع دانيال باتريك موينيهان (1927 - 2003) تقريره المثير للجدل المعروف باسم تقرير "عائلة الزنوج"، الذي وضع فيه اللوم على الإنسان الأسود الذي تتسبب طبيعته له بالفقر، متجاهلاً بنية المجتمع التي تنتج هذه المشكلة وتكتوي بها جميع الفئات الاجتماعية حينها (نسبة الفقر بلغت حينها في أميركا 19 في المئة). وصارت هذه النظرية التي نحتها دبلوماسي أميركي رفيع عمل في زمن الرئيس نيكسون ضمن ما سمي وقتها "الحرب على الفقر" أيقونة لتدشين وإطلاق هذا المبدأ الظالم، الذي نتج منه ملايين الضحايا فردياً وجماعياً منذ موينيهان وحتى يومنا هذا، إذ ربط بعض الباحثين بين نظرية الرجل وما حدث في حروب النازية والحروب العالمية التي راح ضحيتها أكثر من 100 مليون شخص.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
افترض تقرير موينيهان غياب الرجل الأسود الأميركي عن عائلته، بسبب شعور الأمومة القوي لدى المرأة السوداء التي وصمها تلقائياً بأنها السبب في غياب الرجل عن عائلته، فهي امرأة قوية المشاعر تجاه أبنائها وغير فاعلة أو عاملة في الوقت ذاته، وذلك حتى وقت إعداد التقرير ونشره، مما زاد بشكل ملحوظ من إقبال العائلة السوداء على طلبات الإعانة والرعاية الاجتماعية.
ومع أن الرجل استند فعلاً إلى بعض الأرقام والإحصاءات ليمنح رأيه شيئاً من الصدقية، فإنه طبق في تقريره من دون أن يشعر، نظرية نفسية بدائية يسميها علماء النفس والاجتماع وعلم الأحياء نظرية "مستعمرة النمل". وبذلك نحت الباحث الذي صار مستشاراً لبعض أشهر رؤساء دولته لاحقاً، أول مبدأ يلوم العائلة الفقيرة على فقرها، إذ تميز التقرير بكونه وثيقة بنى عليها مجرمون وعسكريون لاحقاً عدداً كبيراً من جرائمهم ضد الإنسانية.
نظرية "مستعمرة النمل"
يعد مجتمع النمل أشبه المجتمعات بالبشر قبل مرحلة الحداثة، وعده الباحثون من أطول المجتمعات عمراً. ويتميز بالعمل الدؤوب، لكن أهم صفة وراء نجاح هذا المجتمع هي صفة "صناعة الطبقة العقيمة"، وهي طبقة من الإناث أيضاً تتخلى عن حقها في التزاوج والتكاثر لصالح الملكة، وتصبح مسخرة لتربية الإخوة والأخوات، ويحدث كل ذلك في سبيل نجاح وبقاء المستعمرة، مما يعني أن الباحث موينيهان أسقط هذه الحال على المجتمع الأفروأميركاني وقتها، وتجاهل حال الاضطهاد التي تعرضت لها العائلة الزنجية من دون غيرها أيضاً، مما دفع عالم الاجتماع المعارض لفكرته ستيفن شتانبيرغ في عام 2011 إلى اعتبار نظريته التي أخذت صبغة رسمية وحكومية، مجرد وسيلة خبيثة "لإخراج حركة تحرير السود عن مسارها".
يذكر أن الفكرة مورست في سياق تربوي وأخلاقي لدى بعض المجتمعات الأبوية، إذ يقوم الوالد بلوم وتقريع الأبناء بحجة المحبة المفرطة التي تصل إلى مرحلة العقاب الجسدي، فيما تعد حضارات أخرى ونظريات حديثة هذا السلوك أساساً لهذه النظرية التي كرستها بعض المعتقدات اجتماعياً قبل وصولها إلى عالم السياسة والجريمة المنظمة.