مرحلة عسيرة مرت بها بعض الدول العربية، وقد حُكمت بحكم شمولي ديكتاتوري بدرجات مختلفة، سواء في اليمن وليبيا والعراق وسوريا، بتسمية البعض، إلا أنها أيضاً اتصفت بأن ذلك الحكم الديكتاتوري كان له «معاونوه» ممن يدعون الثقافة، وفي الوقت نفسه مصفقون ومبررون وشهود خرس لتلك الأنظمة.
لدي مثال واحد قد يغني عن استعراض كل تلك الأمثلة التي صاحبت الديكتاتوريات، وهو مذكرات سعدون لولاح، الذي تحول إلى سعدون حمادي خجلاً من لولاح كما قال، وليس في ذلك الاسم أي مثلبة!
تلك المذكرات، التي نشرت أخيراً من «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في قطر 2022، طافت بتجربة الكاتب في عمله السياسي عضواً ومسؤولاً في «البعث العراقي»، وأيضاً تسلم عدداً من المناصب العليا في الدولة العراقية.
في مقدمة الكتاب يقول الكاتب إنه «سوف يقول كلمة الحق»، ثم يتابع «أن ليس كل ما يعرف يقال»! مفرقاً بكلماته بين «ما يعرف» و«ما يمكن البوح به»! ومع أنه يسرد مقابلاته مع زعماء العالم من شرقه إلى غربه، فلم يذكر أياً من السياسيين الكويتيين رغم تعدد اللقاءات معهم!
في مجمل الملاحظات أن الرجل «قصر عن قول الحقيقة»، حيث يذكر تعريف «احتلال أميركا للعراق»، وهذا من حقه، أما إذا وصل إلى الكويت فهو يشير أكثر من مرة إلى «دخول الكويت»!
يتحدث عن تجربته الأولى بالجامعة الأميركية في بيروت، ويصف التجمعات الأولى لحزب البعث، ويقابلهم القوميون، فيذكر جورج حبش ووديع حداد (اللذين يحمل لهما كل تقدير)، ويتجاهل كلياً ثالثهما وهو الدكتور أحمد الخطيب ربما لأنه من الكويت!
يتحدث عن ذكرياته في أميركا، التي يقول عنها: «لفت نظري روح التسامح وقبول الآخر والديمقراطية» في الولايات المتحدة، ولكن «لا أحب دولة الولايات المتحدة»!!
يحمل من دون هوادة على عبد الكريم قاسم، ويصف عبد السلام عارف بـ«قبيح المفردات»، وفي الوقت نفسه يسرد الصراع الدموي داخل أجنحة حزب البعث.
يعرج على الخلاف بين قاسم و«البعث»، أن الأول كان يريد تحقيق «وحدة كونفدرالية» و«البعث» يريد وحدة «فورية» مع مصر! طبعاً في حكم «البعث» الطويل نسبياً، وكان المؤلف جزءاً منه، لم يحقق حتى «الوحدة الوطنية»، بل إن أول عمل قام به الحزب بعد وصوله الأول بعد قاسم أن ألغى قانوناً إنسانياً مهماً هو «مساواة المرأة بالرجل في الإرث»!
ينتقد النظام الملكي في العراق، فيرى أنه كان «يفتقد المرونة لأنه لو استوعب المعارضة وأفسح لها، لتطور المجتمع العراقي طبيعياً ولما احتاج إلى ثورة!»، وكأن المؤلف وهو يشارك في الحكم قد نصح بـ«المرونة»، بل وفي تناقض، عظم في مكان آخر أعمال «الحرس القومي» التابع لحزب البعث في «اجتثاثه» الشيوعيين!
على استحياء شديد ينقد الحكم الذي شارك فيه بقوله «عندما غابت المنافسة وأصبحنا في الحكم، وتراكمت المسؤوليات، ونمت بعض المصالح، ونما العمل الفوقي، لاحظت ضمور الحيوية وقلة المبادرة».
من تجربة المؤلف وهو محق هنا يقول: «نحن العرب ليست لدينا القدرة على حل الخلاف بالتفاهم سلمياً، فكل خلاف يبدأ صغيراً وسرعان ما يتوسع، وفي الغالبية العظمى من الحالات ينتهي الأمر بالصراع وتصفية جهة لجهة أخرى» (ص 66 من المذكرات). وأسباب ذلك «خليط من المفاهيم الخاطئة والعوامل النفسية والأنانية»، لعله هنا يصف الصراعات التي تمت في الحزب نفسه، وبين الحزب ومنافسيه السياسيين. ولكنه لم يتبين أن جزءاً من المفاهيم الخاطئة شعار «الوحدة العربية»، وقرنها بـ«الديمقراطية»! فلم يحقق الحزب بكل أجنحته لا الأولى ولا الثانية كانت شعارات لتضليل الجماهير لا أكثر.
إلا أن الملاحظ في المذكرات ما كتبه المؤلف تحت عنوان «إجراءات لم أؤيدها اندفعت لها حكومة الثورة»، وهي «مسألة العلاقة بالكويت»، حيث اندفعت الحكومة في بعض الإجراءات (يتكلم عن الحكم الأول لـ«البعث» عام 1963) فجرت مفاوضات مع الكويت ووقعت اتفاقات، ويكمل: «لم أكن مؤيداً لذلك، ولكني لم أستطع فعل شيء»، الإشارة هنا إلى الاتفاق مع الكويت، الذي وقعه حردان التكريتي وصالح مهدي عماش بمباركة أحمد حسن البكر (وقتها رئيس وزراء)، وحصلت العراق على 30 مليون جنيه إسترليني، وخمسة لشهداء «ثورة فبراير 63»! تصريح الكاتب يوصلنا إلى دوره في التهيئة لاحتلال الكويت من العراق عام 1990، فقد بعثه صدام حسين بخطة، بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، بعض أفكارها «قواعد عراقية عسكرية في الكويت وممر مائي - أرضي، ودفع مبلغ مالي ضخم!» وقتها الجانب الكويتي كان له رأي يقول بالاستعداد للمساعدة، ولكن دون أي امتيازات تمس استقلال ووحدة أراضي الكويت.
ذهب الرجل إلى صدام حسين، ونقل له الكثير مما لم يحدث، وحرّف في الوقائع (التي عرفت لاحقاً) فكان سبباً وليس كل الأسباب في مغامرة صدام حسين العبثية لاحتلال الكويت، الفقرة التي أوردها حمادي في مذكراته في صفحة 80 تنم دون لبس عن موقفه الشائن، رغم كل الكلام المعسول الذي سرده عن «الوئام وحل المشكلات، وأن فينا الكثير من الأنانية وحب الانفراد بالحكم إلى آخره...» (صفحة 67).
وعلى الرغم من امتناع المؤلف عن الإشارة إلى مثالب الحكم الذي شارك فيه، فإنه في صفحة 213 تحت عنوان «القيادة الكاريزمية والاستخدام المفرط للقوة»، في إشارة ضمنية للديكتاتورية كقوله «إن القائد الذي يعتقد أنه يملك الحقيقة الكاملة والمطلقة يلحق ضرراً بالمصلحة العامة»، قصر عن أن يقدم لنا نقداً موضوعياً للحالة التي شارك فيها.
الكاتب مثل غيره مما خدموا في رحاب الديكتاتورية العربية الحديثة، وبقوا لسرد تجربتهم، لا يقدمون نقداً موضوعياً للتجربة المرة، فما زالوا حبيسي أوهامهم وشعاراتهم! المذكرات فيها من الغرائب الكثير، كفكرته في توحيد لعبة كرة القدم والطائرة والسلة في «لعبة واحدة»!
آخر الكلام:
الديكتاتورية حتى لو حققت بعض النجاح في البداية، فإن النتيجة النهائية صفرية وكارثية!