المأساة السودانية ومتلازمة سوار الذهب!

منذ 1 سنة 203

هناك مثل سوداني قديم يقول: «اللي تسويه إيدك يغلب أجاويدك»، تذكرت تلك المقولة الحكيمة وأنا أتابع بمزيج من الحزن والأسى تدهور الأوضاع في السودان، وارتفاع حدة الاقتتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع والذي دخل في يومه الرابع من دون أي أمل في توقف القتال في المنظور القريب على ما يبدو. لينضم السودان إلى سلسلة من البلدان العربية التي عانت المآسي الداخلية المؤلمة، مثل الصومال ولبنان والعراق واليمن وسوريا وليبيا.
هناك شبه إجماع في العالم العربي على أن السودان بلد لم يحقق الطموح الذي كان متوقعاً ومأمولاً ومنشوداً منه. في ظل وجود أخصب الترب الزراعية على أرضه، ووفرة هائلة من المياه العذبة التي جعلته من أهم دول العالم في إنتاج السمسم والصمغ العربي والسكر وكذلك ثروة حيوانية لا يستهان بها، وتحديداً في مجال المواشي وأيدٍ عاملة ماهرة وإرث تعليمي مهم، فهو مقر أول كلية طب في العالم العربي تم تأسيسها عام 1902، وبه طبقة مثقفة مميزة. السودان هو الذي خرج منه الأديب الكبير الطيب صالح، والشاعر الرقيق الهادي آدم، والمفكر السياسي الكبير منصور خالد، والمفكر الإسلامي محمود محمد طه، والفنانون سيد خليفة ومحمد وردي وفرقة «البلابل»، ونجوم كرة القدم من أمثال علي جاجارين ومصطفى النقر ورجل الأعمال العالمي محمد إبراهيم.
ولكنْ هناك خلل واضح في العلاقة بين الطموح السوداني والمنظومة السياسية المتعاقبة التي حكمت البلاد، خصوصاً حينما تشكلت الخلطة المدمِّرة بين الحكم العسكري والأصولية الدينية، والتي شكلت منظومة من المصالح التي جعلت الطبقات الحاكمة ترعى مصالحها، وبالتالي أدى ذلك إلى انعزال تام عن أرض الواقع وغياب كبير عن نبض الشارع.
وهذا الانعزال أدَّى إلى نتائج فادحة ومدمرة، لعل أبرزها تدهور الوضع الاقتصادي وانفصال جنوب السودان وأزمة منطقة دارفور التي جلبت معها العقوبات الأممية، وأدت إلى ارتفاع الأصوات الانفصالية فيها لتَلحقها أصوات انفصالية مشابهة في أماكن أخرى من البلاد.
ومع الوعود المتواصلة والمستمرة للقيادات العسكرية المتعاقبة بـ«حتمية» التحول إلى الحكم المدني، يعود بقوة اسم الراحل القائد العسكري عبد الرحمن سوار الذهب إلى الواجهة مجدداً، وهو الذي تحول إلى أسطورة سياسية بعد أن صدق وعده في تسليم السلطة للحكم المدني تماماً في الوقت الذي وعد به، وأصبح مضرباً للأمثال في التميز في الذاكرة الشعبية السودانية.
ولكنّ الحلم السوداني الذي وُلد مع الرئيس إسماعيل الأزهري عام 1965 كحاكم مدني واعد شهدت البلاد في وقته استقراراً لافتاً وانتقالاً سلمياً للسلطة بعده سرعان ما اختفى. ازدهرت الأعمال في تلك الفترة وكذلك الفنون والآداب والتعليم والصحافة، قبل أن يدمِّر كل ذلك انقلاب جعفر النميري وحكمه الذي استمر لأكثر عقد من الزمان تراجع فيه السودان في مختلف المجالات.
السودان يواجه تحديات هائلة ومخططات تنتهز «سقوط» الدولة، فهناك حلم الحبشة الكبرى القديم، الذي يتشكل من توسع قبلي داخل الأراضي السودانية لتكوين موقع على البحر الأحمر. وأمن البحر الأحمر بات اليوم هدفاً لعدة بلدان، وعليه فتأمين تلك المسألة بات مطمعاً للكثيرين.
تفتيت السودان وتمزيق جغرافيته قد يكون أخطر وأهم ما ينتظره السودانيون، في حال استمرار وتفاقم الاقتتال، وهذه لعمري ستكون أبهظ وأغلى فاتورة لحربٍ ما كان لها أن تقوم.
السودان وطن رائع، كما يقول الطيب صالح «آه، أيّ وطن رائع يمكن أن يكون هذا الوطن، لو صدق العزم وطابت النفوس وقل الكلام وزاد العمل».
وهو بتلك الكلمات البليغة يختصر المشهد بشكل عبقري ويقول ما هو في بال كل سوداني.
أيام عصيبة ولحظات حرجة يمر بها السودان وشعبه الطيب النبيل، بلاد يهددها التمزق في مواجهة جنون السلطة وأطماع الكرسي، ويُسحق لأجل ذلك العشرات من الأبرياء.