اللصوصية والمافياوية في العراق: حقيقة أم وهم؟

منذ 1 سنة 228

كتب عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء ونائب رئيس الجمهورية العراقية والوزير الأسبق، مقالاً في «نشرة شبكة الاقتصاديين العراقية» بعنوان: «الدولة العراقية... لصوصية-مافياوية: حقيقة أم وهم؟ بعد عشرين عاماً. المجتمع، الدولة، الهوية. يرونها نهاية، ونراها بداية».

يناقش عبد المهدي أموراً أساسية حول العراق ما بعد الاحتلال (خلال الأعوام العشرين الماضية). الأول حول الاتهامات المتكررة لنهب وهدر المليارات من الدولارات، وينسبها لمقالات صدرت باللغات الأجنبية. ومن ثم ينتقل إلى الهوية العراقية. فهل هو «اجتماع» أم «مجتمع»؟ ويدور النقاش هنا حول كيان العراق وهل هو أمة أم شعب؟

سأتطرق أولاً إلى موضوع «اللصوصية والمافياوية في العراق: حقيقة أم وهم؟». إن المعلومات والأخبار عن نهب الثروة العراقية مصدرها رؤساء حكومات ووزراء وحاكم البنك المركزي الأسبق.

احتل العراق المرتبة 157 بين 180 دولة في مؤشر منظمة الشفافية الدولية لعام 2022، وهناك تقريباً «فضيحة أسبوعية» تثار في البلاد. فعلى سبيل المثال وليس الحصر: المليارات التي أُهدرت في تشييد وتشغيل مصفاة كربلاء، حيث التكلفة التقديرية الأولية لها 3 مليارات دولار، بينما التكلفة النهائية ارتفعت إلى 8 مليارات دولار. كتاب استقالة وزير المالية الأسبق علي عبد الأمير علاوي، وتحذيره من المافيات والنهب في مؤسسات الدولة العراقية منذ احتلال عام 2003.

وهناك أيضاً مبالغ «السُّلف المقدَّمة لمؤسسات الدولة التي تقدَّر بأكثر من 160 تريليون دينار عراقي منذ عام 2004»، حسب الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الرحمن المشهداني في حديث تلفزيوني، وأن «إطفاء السُّلف من خلال التصويت البرلماني على المادة 16 من قانون الموازنة يعني شرعنة الفساد». وأشار إلى أن «مجلس النواب قام في أكثر من مرة في السنوات السابقة بحذف هذه الفقرة من مشروع قانون الموازنة، وكان يفترض عدم الموافقة عليها بشكل نهائي». وبيَّن أن «مصير الأموال المسروقة من السُّلف الممنوحة لمؤسسات الدولة ذهبت إلى جيوب الفاسدين»، مقدّراً «أن نحو 70 في المائة من هذه الأموال سُرقت».

حسب المشهداني، «الأموال المسروقة من السُّلف تتجاوز 130 تريليون دينار»، وأضاف: «إن كانت الأموال لم تُسرق، فلماذا تأخرت مؤسسات الدولة في تقديم كشوفها؟».

من الجدير بالذكر أن مبلغ 160 تريليون دينار عراقي هو بمثابة موازنة الدولة لسنة بكاملها تقريباً.

وكُشف في بغداد مؤخراً عمّا أصبحت تُعرف بـ«صفقة القرن» التي تشمل نحو 2.5 مليار دولار تمت سرقتها من 5 شركات بين عامي 2021 و2022 من حساب هيئة الضرائب العامة لدى مصرف الرافدين الحكومي.

كما هناك التهريب اليومي لنحو 150 مليون دولار إلى خارج العراق نتيجة «مزاد العملة».

وتشكل الاتفاقات الاقتصادية بين بغداد وطهران وسيلة أخرى للفساد، منها اتفاقية تصدير الغاز الإيراني لتغذية محطات الكهرباء العراقية. إذ تصدر إيران نحو 70 مليون متر مكعب يومياً من الغاز. وكما هو معروف، تختلف أسعار الغاز العالمية من منطقة جغرافية إلى أخرى، إذ لا يتوفر سعر عالمي للغاز كما هو الأمر للنفط. ويتراوح السعر لمبيعات الغاز بين دول شرق المتوسط من نحو 3 إلى 4 دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية. لكن تفيد مصادر الصناعة النفطية بأن سعر صادرات الغاز الإيراني للعراق يبلغ نحو 11 دولاراً للمليون وحدة حرارية بريطانية. من ثم، يثير هذا الفرق في الأسعار شبهات في صفقات وعمولات بمليارات الدولارات.

هذا، فيما يتعلق ببعض قضايا الفساد. إذ لا تتوفر معلومات وافية عمّا يجنيه «المكتب الاقتصادي» للأحزاب المذهبية التابعة لإيران من أموال الوزارات العراقية؛ حيث إن كلاً من هذه «المكاتب الاقتصادية» مسؤول عن الحصول على الأموال من كل وزارة خُصصت لحزبه. ونستطيع أن نتصور كم هي الأموال التي يتم تحصيلها من الحزب المسؤول عن وزارة النفط مثلاً، ناهيك بعمليات التهريب النفطي.

وهناك عشرات الفضائح الأخرى. مثلاً: طلب رئيس وزراء أسبق 5 مليارات دولار من محافظ البنك المركزي. ورفض المحافظ الطلب، إلا أن رئيس الوزراء الأسبق هدده في مكتبه. ثم اتهم المحافظ بالفساد، الأمر الذي رفضته المحكمة. والمثال الآخر: طلب رئيس كتلة نيابية مذهبية من وزير الصحة تغيير عطاء مناقصة لشراء علاج تلقيح الأطفال من منظمة للأمم المتحدة لشركة ما. والفرق في السعر هو عشرات الملايين من الدولارات. رفض وزير الصحة الطلب وقدم استقالته وغادر البلاد. هذه أمثلة لما يحصل في العراق من نهب.

لقد أصبح واضحاً أن هناك عملية نهب مفضوحة للثروة العراقية. فبعض هذه الأموال يبقى مع الفاسدين والمفسدين العراقيين، والبعض الآخر يُحوَّل لمؤسسات سياسية وعسكرية إيرانية، كما يتم تخصيص أموال لصالح تنظيمات وفروع «الحرس الثوري» الخارجية.

ثانياً، ركز المقال على أمر أساسي حول العراق. فهل هو «اجتماع» أم «مجتمع»؟ ويشرح الكاتب بإسهاب عن مكونات الشعب العراقي. وملخص القول أن هناك نحو 18 «مكوناً». وهذا ما هو متداول ومعروف بعد احتلال 2003، لكن اللافت للنظر أن هذا الرقم لا يأخذ في عدد «المكونات» فئة أخرى نمت وترعرعت خلال النصف الأول من القرن العشرين تحت مظلة «العراق الحديث المعاصر»، هذا الجيل عاش تجربة عراق يحاول اللحاق بالحداثة والأفكار التنويرية بعد خمسة قرون من الحكم العثماني. وقد ترعرع تحت مظلة هذه المرحلة بعض كبار العلماء والأدباء والشعراء من مختلف ما تسمَّى الآن «مكونات»، وتأسست المدارس الهندسية المعمارية والرسم والنحت. فالأجيال التي عاشت تجربة «الحداثة» هذه لن تنسى ما يمكن أن يوفره العراق لشعبه من إمكانات، وما يتطلبه منه من أمانة في إدارة دفة البلاد. هذه الأجيال لا تشكل «أمة» واحدة كما يطالب الكاتب. فقد تكوّن العراق من أهل البلاد الأصليين من بابليين وسومريين وكلدان وسريان، ثم الفتوحات الإسلامية وهجرات مستمرة للعشائر العربية والكردية، هذا ناهيك بجيوش إسكندر المقدوني والعثمانيين والقوقاز والمماليك والفرس. وكما هو معروف رسمت اتفاقية سايكس – بيكو حدود العراق بُعيد الحرب العالمية الأولى. لكن رغم الاتفاقات الأجنبية، ورغم تنوع المجتمع العراقي، فقد استطاعت المملكة العراقية تحت قيادة الملك فيصل الأول، تحدي هذه «الحقائق» والصعوبات، وعملت على تأسيس «دولة معاصرة حديثة» وليست «أمة». فالنهج في بناء الدول منذ القرن العشرين هو لتأسيس دول «معاصرة حديثة» رغم اختلاف «الأمم» فيها. وهذا ما تتطلع إليه أجيال من العراقيين، عايشوا هذه المرحلة من العراق المعاصر، وكذلك الآلاف من ذريتهم في الخارج، وهم يصرّون على تكرار التجربة «التنويرية»، رغم الاحتلال الأميركي عام 2003 وتغلغل النفوذ الإيراني من خلاله وشيوع النظام الطائفي، الذي برهن على فشله الذريع إقليمياً. إن النظام الطائفي، أو نظام «المكونات» الذي تم استنساخه للعراق بعد عام 2003 فشل بكل معنى الكلمة، ليس فقط لسوء الإدارة، بل لتناقضه مع عصر الدول «الحديثة»، إذ لا يمكن أن تقوم قيامة لنظام «طائفي» في عصر حديث، حيث لا يتم تعيين مسؤول في الدولة إلا حسب: دينه – طائفته – مذهبه – عشيرته – مناطقيته... ومن ثمّ لا يمكن في ظل نظام كهذا حُكم أو تسلُّط مجموعة واحدة على الآخرين. وفي عالمنا الجديد، حيث المتغيرات العلمية والاقتصادية المستمرة، فإن مصير هذا النظام الطائفي هو النهاية، والمستقبل هو للدول الحديثة المعاصرة.