اللامركزية المغربية والمقاربة التنموية

منذ 1 سنة 186

لا يمكن للامركزية، أي نقل الاختصاصات من المركز إلى الجهات (الجهوية كما يُصطلَح عليها في المغرب) في إطار مسلسل بناء ديمقراطية محلية مباشرة، أن تكتمل من دون نقل اختصاصات وسلطة اتخاذ القرار الإداري من الوزارات إلى مصالحها المحلية، أي ما يُصْطلحُ عليه في المغرب بـ«اللاتمركز الإداري»؛ وذلك من أجل خلق تفاعل أكثر بين السلطة المنتخَبة والسلطة المعيَّنة بهدف وضع التنمية المحلية على السكة الصحيحة، أي خدمة المواطن.

في سياق ذلك، جاءت «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية» التي أطلقها العاهل المغربي الملك محمد السادس في 18 مايو (أيار) 2005، وساهَمَت بشكل حثيث، وفي كل النسخ المتوالية، في خلق تحول نوعي على مستوى التنمية البشرية في المغرب من خلال محاربة الفقر والهشاشة والإقصاء.

يكفي أنه في نسختها الثالثة (2019-2023) موَّلت المبادرة أكثر من 25700 مشروع بموازنة قدرها 10.5 مليار درهم (نحو مليار دولار)، خصوصاً على مستوى دعم الرأسمال البشري والحكومي في إطار مقاربات متجددة؛ ما جعلها تحقق نجاحات نوعية وكمية مهمة، رغم تحديات استدامة المشروعات والرفع من مردوديتها.

ويبقى المشروع الملكي الثاني والذي يساهم بشكل نوعي في وضع أسس المقاربة الترابية المتجددة (هو النموذج التنموي للصحراء المغربية). وهو مشروع له أبعاد تنموية واقتصادية وجيو - استراتيجية وسياسية متكاملة فيما بينها، وتنفيذه بالشكل الصحيح، من شأنه جعل الأقاليم الصحراوية فضاءً حيوياً «للربط والمبادلات بين أوروبا وأفريقيا جنوب الصحراء»، كما قال العاهل المغربي.

إن الموازنة التي خُصصت للبرنامج وصلت إلى نحو 81 مليار درهم (ثمانية مليارات دولار)، وفاقت نسبة انطلاق المشروعات 70 في المائة في حدود 2021 (رغم ثقل الجائحة)، بينما فاقت نسبة تحويل الاعتمادات المالية 50 في المائة. لهذا؛ فإن تفعيل النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية المغربية يعرف زخماً متزايداً ويساهم في تغيير المعادلة الاجتماعية والاقتصادية للصحراء المغربية رغم استمرار تحديات تأثيره على خلق فرص التشغيل، خصوصاً تشغيل الشباب والمرأة.

أما المشروع الملكي الثالث، والذي خُصص بشكل نوعي للجهوية (المناطق) والمقاربة الترابية للتنمية هو برنامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية في المناطق القروية.

وعقب ست سنوات من إطلاق البرنامج كانت النتائج بادِية للعيان، حيث تم وضع سبعة مخططات جهوية لتنمية المناطق القروية بموازنة وصلت إلى أكثر من 48 مليار درهم (4.8 مليار دولار)؛ وهو ما مكَّن من استهداف 1066 جماعة قروية و144 مركزاً قروياً و59 جماعة حضرية. والتحديات التي يجب رفعها هذه السنة السرعة في الإنجاز وإعطاء الأولوية للمناطق الأكثر فقراً، وكذا تبني مقاربة تشاركية أكثر نجاعة وفاعلية.

هذه المشروعات الملكية المهيكِلة شكّلت مجتمِعَةً صرحاً متيناً للمقاربة الترابية لإشكاليات التنمية الاقتصادية والبشرية.

إن الجهوية ورشة تتطلب وقتاً ونَفَساً طويلين. ويبدو أن الحكومة المغربية عاقدة العزم على دعم «اللاتمركز الإداري» لمواكبة هذه الورشة. فآخر الإجراءات التي تم الإقدام عليها هو إصدار المرسوم المتعلق بشروط وكيفية تفويض السلطة وتفويض الإمضاء من المركز للمصالح الخارجية وللولاة والعمال (المحافظون).

هذا تحول حقيقي وورشة مُهَيكِلة بامتياز. هناك إجراءات أخرى منتظَرة، وهي عملية إيجاد مركز قانوني للمصالح اللامُمَرْكزة على المستوى الجهوي (المناطقي) والإقليمي؛ ما يعني توافر هذه المصالح على اختصاصات أصلية خاصة بها وليس فقط اختصاصات مفوَّضة من المركز.

هل هذا يعني تغيير القانون التنظيمي للمالية، الذي يجب أن يَتَضَمَّنْ مقتضيات تُمكِّن من إعطاء الاعتمادات المالية مباشرة إلى هذه المصالح؟ هل يعني أيضاً تغيير المراسيم المنظِّمة للقطاعات الوزارية من أجل إحداث مصالح لا ممركَزة ذات مركز قانوني قائم بذاته؟

على الحكومة إيجاد الأجوبة لهذه التساؤلات، ورفع تحدي الانسجام والتنسيق بين هذه المصالح والجماعات الترابية (الصحراوية).

من جانب آخر، وضعت الجهات (المناطق) مخططات للتنمية والتي قد تصل قيمتها إلى عشرات المليارات من الدراهم. بيد أن ميزانية الدولة لا يمكن لها تَحَمُّلْ ذلك. فالجهات لم تطوِّرْ بعد إمكاناتها الذاتية لتمويل طموحاتها كما كان منتظراً. لهذا؛ يجب إعادة النظر في النموذج الاقتصادي للجهات وإلا فإن المخططات الجهوية ستبقى حبراً على ورق. وهذا النموذج الجديد يجب أن يعتمِد على تمويل الاختصاصات التي ستُحوَّل من المركز لِلْجهة، وعلى الموارد الذاتية التي قد يكون مصدرها إما جبايات محلية أو أملاك خاصة بالجهة، وعلى الاقتراض، وعلى مِنَحٍ في إطار شراكات وطنية أو دولية.

أضِفْ إلى هذا أن ضِعْف موارد الجماعات المحلية (البلدية والقروية)، خصوصاً القروية منها جعل جُلَّها تنظر إلى الجهات (المناطق) على أنها جهةٌ مانحة.

فالجماعات القروية تعاني نقصاً كبيراً، والجهات لا يمكنها تلبية حاجيات الجماعات، خصوصاً ما تعلق منها بالبنية التحتية. لهذا؛ وجب التفكير في نموذج جديد للجماعات الترابية، مبني، أولاً، على التكامل بين القرى والمدن، أي ما بين الباشويات (السلطات المعينة المكلفة المدن) والدوائر (السلطات المعينة المكلفة الجماعات القروية)، وثانياً، على الاستعمال الأنجع والمشترك للوسائل، وثالثاً، على تدبير التنمية على مستوى ترابي أوسع. وبالتالي، هكذا يمكن للمغرب أن يصل إلى جماعات ترابية قابلة للحياة ولها موارد كفيلة بتخطيط وتنفيذ المشروعات التنموية، مع الإبقاء على خدمات القرب الإدارية كما هي عليه حالياً.

على مستوى العدالة المجالية، الكل يُجْمِع على أنه آن الأوان لتحويل النظر إلى الجهات التي تعاني مستوى مرتفعاً من الفقر والتهميش لتنال حظاً أوفر من الاستثمار العام. هناك مسألة أسمّيها «الصدمة الإيجابية» للمشروعات، أي تراكم المشروعات وتفاعلها وانسجامها لخلق القفزة النوعية؛ هذا ما يقع في جهة طنجة - تطوان - الحسيمة، والرباط - سلا - القنيطرة، والدار البيضاء - سطات. يجب التفكير بالشيء نفسه فيما يخص الجهات الأخرى.

«الصدمة الإيجابية» لا تتحقق إلا بالتحقيق المنسجم والفوري لعدد من المشروعات المهيكِلة والتي لها وقع إيجابي على الدينامية الاقتصادية وخلق الثروة والشغل وتحسين حياة المواطنين.