اللاجئون في مصر... تراث تاريخي وتذمر شعبي

منذ 6 أشهر 92

ينشغل المصريون بالتكيف مع الأزمة الاقتصادية، بينما الانفراجات الكبرى المنتظرة ما زالت بعيدة، والبحث عن الأسباب ومن ثم المخارج والحلول يأخذ أشكالاً مختلفة من الحوارات والتفسيرات الرسمية، تتعارض معها أشكال وتفسيرات شعبية تموج وتتصاعد في وسائل التواصل الاجتماعي، وتبرز كثيراً من الفوارق.

في خضم الجدل العام فرضت قضية اللاجئين في مصر نفسها رسمياً وشعبياً، فالأرقام كبيرة، 9 ملايين لاجئ ومقيم، يمثلون ما يقرب من 9 في المائة من أهل مصر المحروسة، لم يُسجل منهم بوصفه لاجئاً في الأمم المتحدة سوى أقل من 400 ألف فقط، ينتظرون الإقامة أو العبور إلى بلد ثالث، أو العودة إلى بلدانهم حين ميسرة. والفئة الثالثة تحديداً لا تعول كثيراً على تعافي بلدها، أو قرب العودة إليه، فالحروب قائمة والأمن غائب، والنظم مستقرة على تكلسها، واهتمامها بعودة الأبناء لا دليل عليه.

والسؤال الأبرز مصرياً: هل ثمة علاقة بين الأزمة الاقتصادية وبين تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين إلى البلاد؟ رسمياً: الأمور لا تفسر بمتغير واحد حتى وإن كان له تأثير ما؛ إذ إن هناك عوامل عديدة، بعضها بفعل الداخل، والبعض الآخر نتيجة تطورات إقليمية لا يمكن إغفالها.

وفي السياق يبدو من المستحيل معرفة القدْر الذي يمثله وجود اللاجئين في مصر على الأزمة الاقتصادية، بوصفه سبباً مباشراً أو غير مباشر؛ لا سيما أن قطاعات كثيرة من هؤلاء اللاجئين أتوا ومعهم مواردهم المالية، ووظَّفوها في أنشطة اقتصادية شرعية، يعمل فيها مصريون وأجانب، ويقبل عليها المواطنون نظراً لجودتها وسعرها المعقول. والكل يشهد بأن السوريين ويليهم اليمنيون يهتمون بالاستثمار والعمل، والقليل جداً منهم من يسعى للحصول على مساعدة مالية أو غير مالية. وتشير أحد التقديرات إلى أن الجالية السورية وقوامها مليون ونصف مليون سوري يقيمون في مصر منذ أكثر من عقد، استثمروا ما يقرب من مليار دولار في كثير من الأنشطة الاقتصادية.

التراث المصري تجاه اللاجئين من العرب والأفارقة مشحون بقصص مبهرة، والسياسة المصرية عبر التاريخ لم تعرف أبداً إغلاق الأبواب أمام اللاجئين، فالأبواب مفتوحة، وعملية الصهر الاجتماعي متاحة من دون قيود، فلا مخيمات ولا مناطق معزولة لمن جاء لاجئاً يرجو الأمان والبعد عن آلام بلده «الأم»، ولو لحين، يعود بعدها إلى وطنه بعد أن يرمم أوضاعه. والمشاعر الشعبية تفيض ترحاباً وحُسن معاملة، والزيجات بين مصريين ومصريات وآخرين من جنسيات اللاجئين المختلفة أكثر من أن تُعد وتحصى، ومنها ما هو شهير يشهد به عالم الفن والسينما طوال القرن الماضي كله، فكثير من النجوم والنجمات في السينما المصرية هم من أصول سورية وعراقية ولبنانية وأرمينية، ولا يشعر المواطن المصري تجاه أي منهم بغضاضة أو كراهية أو رفض؛ بل إعجاب وتقدير بلا حدود، والأغلبية الساحقة منهم حصلوا على الجنسية المصرية نتيجة الإقامة لسنوات وسنوات.

هذا التراث التاريخي، المنفتح والمرحب، يواجه تحدي الإنكار من مجموعات غير معروفة في الفضاء السيبراني، تدعو إلى ترحيل اللاجئين وإغلاق الأبواب، كما يواجه أيضاً غضباً كامناً لدى قطاعات كبيرة من المصريين. والسبب المعلن أن هؤلاء تسببوا في زيادة حدة الأزمة الاقتصادية، فأسعار الشقق ارتفعت أكثر من عشر مرات، أما إيجارات المساكن فلم تعد متاحة للمصريين؛ حيث أصبح إيجار شقة محدودة يتجاوز ضعف -أو 3 أضعاف- دخل أسرة من أب وأم، يعملان شهراً كاملاً دون كلل أو ملل. أما الراغبون في الزواج من الشباب فليس أمامهم سوى أن يؤجلوا زواجهم إلى أجل لا يعلمه إلا الله، أو أن يقبل الأهل باستضافتهم، وهو الأمر الذي يتعذر قبوله لدى قطاعات كبيرة من أبناء الطبقة الوسطى.

سلوكيات بعض جنسيات اللاجئين تثير أحياناً كثيراً من الغضب الشعبي، فبينما لا تجد مجموعات من الشباب السوري أو اليمني من الذين يثيرون الجلبة، ويتسامرون بأصوات عالية على نواصي الشوارع ووسطها، أو يشكلون مجموعات تتصارع فيما بينها، ويستخدمون فيها مواد صلبة وأحياناً حادة، تجد بعض تلك الظواهر في مجموعات الشباب السوداني الذين حضروا في العام الماضي تحديداً. مثل هذه السلوكيات الشائنة لم تكن معروفة لدى الجالية السودانية الأكبر التي تقيم في مصر، واندمجت كلياً بين المصريين، منذ أكثر من عقدين، وبعضها أكثر من ثلاثة عقود، ويقدر عددها بأربعة ملايين نسمة، استفادت من اتفاقيات الحريات الأربع التي تعود إلى اتفاقيات التكامل منتصف السبعينات من القرن الماضي.

الباحثون الاجتماعيون الميدانيون الذين يرصدون هذه الظاهرة يختلفون في تفسيرها؛ لا سيما أن القادمين من السودان وسكنوا المدن الكبرى منذ عام يوصفون بأنهم الأقدر مالياً، وكثير منهم هم آباء كانوا يعملون في مناصب حكومية مرموقة، وأبناؤهم يدرسون في مدارس ذات مصاريف عالية، الأمر الذي يضيف قدراً من الحيرة في تفسير حالات الهرج والمرج الكبرى التي تسود بين مجموعات الشباب والفتيان السودانيين في شوارع مصر وأحيائها التي اتصفت دائماً بالهدوء والسكينة. وبعض التغريدات أوردت لقطات لمجموعات تسمى «التسعة» يهاجمون المارة في الشوارع المظلمة في أحد أحياء القاهرة لغرض السرقة، وقيل إن الأجهزة المعنية تحركت بما يناسب استعادة الأمن. ومما يتندر به المصريون، أن هذا الحي أو ذاك بات «الخرطوم الصغرى»، أو ضاحية «أم درمان» الجديدة. ومن قبل وُصف أحد أحياء الجيزة الشهيرة بأنه «صنعاء الصغرى»، نظراً لكثرة اليمنيين الزائرين والمقيمين والمستثمرين أيضاً، والباحثين عن خدمة طبية جيدة، ولكن الحي تخلى عن تلك الصفة لصالح الأشقاء السودانيين.

تبلوُر مشاعر شعبية غاضبة، أو مرحبة، أو متكيفة مع الواقع الجديد، بات أمراً يتجاوز الخبرة التاريخية بحلوها ومرها، فالذين اعتادوا الهدوء في أحيائهم، أو السكن بإيجارات معقولة تتناسب مع دخولهم المحدودة، أو الذين يشترون احتياجاتهم اليومية بما يمكنهم تحمله، حين يفقدون هذه الحقوق، فمن الطبيعي أن يجدوا في مجموعات اللاجئين الذين تسببوا في فقدان تلك الحقوق سبباً تجب معالجته. وهنا تبرز إشكالية مسؤولية الدولة، ومسؤولية المجتمع، فالمصري بطبيعته بعيد عن العنصرية والاستعلاء والتنمر على الآخر؛ لكن هذه حياته التي يدافع عنها. ففي قيام شهر رمضان المبارك، ساد جزء من الدعاء في أكثر من مسجد، بأن يَمُن الله العلي القدير على السودان الشقيق بالسلام والاستقرار، وأن يعود أهله إلى وطنهم مجبوري الخاطر، وعندها كانت تصدح الأصوات عالية بالاستجابة والتأمين.