إننا نشهد حالياً لحظة معاناة إنسانية شديدة على الصعيد العالمي. وانتشرت جائحة اللاإنسانية، من دارفور إلى أوكرانيا، ومن محنة النساء والفتيات في أفغانستان إلى الأصوات المنسية فيما يبدو للاجئي الروهينغا في ميانمار، والآن المأساة التي لا تُطاق والتي تتفاقم في إسرائيل ودولة فلسطين، وتهدد بالانتشار على نطاق أوسع. إن حالات الطوارئ المتعلقة بحقوق الإنسان هذه مترابطة، فهي في صميمها مدفوعة بأزمة مشتركة؛ أي الفشل في إعطاء قيمة لحياة جميع الناس.
وفي خضم هذا المشهد، علينا التخلص من نزع الحساسية. ولا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بالتخدير إلى هذا المستوى من الكرب. ويجب علينا دائماً أن نتذكر أن أولئك الذين نراهم يُسحبون من تحت الأنقاض، وأولئك الذين ينتظرون أخبار اختطاف أو مقتل أفراد أسرهم، هم مثلنا تماماً. وينبغي لنا أن نتعامل مع محنتهم بنفس الشعور بالإلحاح والتعاطف والتراحم الذي نستشعره لو كانوا أطفالنا أو آباءنا أو أصدقاءنا أو أحباء لنا.
في مثل هذه الأوقات، عندما يشعر الضعفاء بأنه ربما قد تم نسيانهم، نحن بحاجة للقانون أكثر من أي وقت مضى. ليس القانون بالمصطلحات التجريدية، وليس القانون بصورته النظرية، وإنما القانون القادر على توفير حماية ملموسة لمن هم في أمسّ الحاجة إليها. يجب على الناس أن يدركوا أن القانون وحقوق الإنسان لهما تأثير حقيقي في حياتهم. يجب أن تكون ملموسة لأولئك الذين يقطنون غزة والضفة الغربية وإسرائيل، كما ينبغي أن تكون كذلك بالنسبة لأولئك القاطنين في كييف والخرطوم وكوكس بازار. إنه شيء ينبغي أن يكونوا قادرين على التشبث به، شيء ينبغي أن يحميهم من أسوأ عناصر اللاإنسانية.
كنت في الأسبوع الماضي عند معبر رفح، على الحدود بين غزة ومصر، لإيصال هذه الرسالة: إن القانون الإنساني الدولي قد سُن لمثل هذه اللحظات. أن نضمن، في خضم الصراع وفي خضم الغضب، أن يظل هناك خط أساس للسلوك الإنساني، لا يجوز لأي فرد التعدي عليه أو تجاوزه. وكما قال الأمين العام أنطونيو غوتيريش: «حتى الحروب لها قواعد. هذا هو قانون المحكمة الجنائية الدولية».
لقد تابعت بفزع الروايات التي خرجت من إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، حيث تمزقت حياة العديد من المدنيين الأبرياء في إسرائيل. ولا يمكننا أن نعيش في عالم تتحول فيه عمليات الإعدام والحرق والقتل لأمر طبيعي مُستساغ، أو حتى يُحتفى بها. ولا يمكن انتزاع الأطفال والرجال والنساء والمسنين من منازلهم واحتجازهم كرهائن. ولا يمكننا قبول عالم تتحور فيه المحبة داخل العائلة، وهي أعمق الروابط بين الوالد وولده، صوب الشر بالتعذيب والقتل. إنها أعمال بغيضة على أي شخص. فهي أكثر الأعمال مخالفة للإسلام، ولا يمكن أن ترتكب باسم دين اسمه السلام. وتمثل هذه الأعمال بعضاً من أخطر انتهاكات القانون الإنساني الدولي.
إن احتجاز الرهائن يمثل انتهاكاً جسيماً لاتفاقيات جنيف. وهي جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي. وأدعو إلى الإفراج الفوري عن جميع الرهائن الذين اختطفوا من إسرائيل، كما أدعوا إلى عودتهم سالمين إلى أسرهم.
عندما تقع هذه الأنواع من الأعمال، لا يمكن أن تمر من دون تحقيق، ولا يمكن أن تمر من دون عقاب. ولمكتبي سلطة قضائية على الجرائم التي يرتكبها رعايا جميع الدول الأطراف. ولا تزال هذه السلطة سارية ومستمرة في أي جرائم من الجرائم التي يزعم أن مواطنين فلسطينيين، أو رعايا أي دولة طرف، قد ارتكبوها على الأراضي الإسرائيلية بموجب نظام روما الأساسي.
على المسؤولين عن تنظيم الفظائع التي ارتكبت في 7 أكتوبر وتنفيذها أن يعلموا أن مكتبي يُحقق بنشاط في هذه الجرائم. وفي حين أن إسرائيل ليست دولة طرفاً في نظام روما الأساسي، فإنني على استعداد للعمل مع سلطاتها الوطنية، ومع أسر الضحايا في إسرائيل، من أجل استكمال الجهود المحلية، وضمان تحقيق العدالة للمتضررين من هذه الجرائم.
في أعقاب إعلاني في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بأنني سوف أسعى إلى زيارة كل من إسرائيل ودولة فلسطين لتعزيز عملنا فيما يتعلق بهذا لوضع، ما فتئت أشارك بصورة مكثفة مع جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة؛ كي أتمكن من الوصول إلى هذه السلطات القضائية. وفي الأسابيع الأخيرة، زدتُ من تعجيل وتيرة هذه الجهود.
في غزة، أردت أن أقابل أولئك الذين يعانون من آلام هائلة، أن أستمع إلى تجاربهم مباشرة، وبصورة حاسمة، أن أعدهم، وأن أمنحهم التزامي بأن حقهم الطبيعي هو العدالة. فالفلسطينيون يملكون العدالة، ويستحقون العدالة بقدر ما يستحقها أي إنسان آخر. وكما قلت في القاهرة، ليس هناك عباد لإله أقل شأناً.
بينما لم أتمكن من دخول غزة، وقفت على بابها عند معبر رفح، وشددت التركيز بأن هناك أطفالاً أبرياء، صبية وفتيات، خارج تلك البوابات، يجب أن يكونوا في المدرسة، يتعلمون ويدرسون ويأملون في بناء مستقبل أفضل، آملين في علاج أخطاء هذا الجيل من القادة ونقائصنا.
بل إنهم بدلاً من ذلك، يتحملون معاناة لا يمكن تصورها. إن الفلسطينيين الذين لا يريدون أي جزء من هذا الصراع يجدون أنفسهم محاصرين بأفعال عدائية. فالكثير منهم يموتون، والكثير منهم يصابون. ومن غير المقبول أن نرى جثث الأطفال الصغار تُسحب، مغمورة بالتراب، وتُنقل سريعاً إلى مرافق طبية قد لا تكون لديها الوسائل اللازمة للعلاج. وليس من الممكن تحمل المدنيين البقاء محاصرين تحت وطأة حرب لا يمكنهم الفكاك منها.
ولا يمكننا القبول بأن الطبيعة الوحشية للحرب أمر واقع. ولا يمكننا ويجب ألا نغفل عن حقيقة أن هناك قوانين تحكم سير هذه الأعمال القتالية. ليس هناك شيك على بياض حتى في حالة الحرب. القوانين التي لدينا، أي نظام روما الأساسي الذي أعمل بموجبه، تتطلب أن تكون أرواح الأبرياء محمية بصورة خاصة. وتنطبق هذه الحماية التي يوفرها القانون بالتساوي، بصرف النظر عن العرق أو الدين أو الجنسية أو الجنس.
ولمكتبي سلطة قضائية مستمرة فيما يتعلق بأي جرائم يرتكبها أي طرف على أراضي دولة فلسطين. وتشمل هذه السلطة القضائية الأحداث الجارية في غزة والضفة الغربية.
على إسرائيل التزامات واضحة فيما يتعلق بحربها مع «حماس»، ليست فقط التزامات أخلاقية، وإنما التزامات قانونية بأن عليها الامتثال لقوانين الصراع المسلح. وهذه القوانين قائمة بوضوح في نظام روما الأساسي واتفاقيات جنيف.
تملك إسرائيل جيشاً محترفاً ومدرباً جيداً. ولديهم مدعون عامون عسكريون، ونظام يهدف إلى ضمان امتثالهم للقانون الإنساني الدولي. فلديهم محامون يقدمون المشورة بشأن قرارات الاستهداف، ولن يقعوا تحت أي سوء فهم بشأن التزاماتهم، أو أنه يجب أن يكونوا قادرين على المحاسبة عن أفعالهم.
وسوف يتعيّن عليها إثبات أن أي هجوم يستهدف المدنيين الأبرياء أو الأعيان المحمية يجري ويُنفذ وفقاً لقوانين وأعراف الصراع المسلح.
كما سوف يتعيّن عليها إثبات التطبيق السليم لمبادئ التمييز، والاحتياط، والتناسب.
بالنسبة لأولئك المسؤولين عن الاستهداف وإطلاق القذائف، أود أن أكون واضحاً بشأن ثلاث نقاط على وجه الخصوص؛ الأولى: بالنسبة لكل مسكن، بالنسبة لأي مدرسة، وأي مستشفى، وأي كنيسة، وأي مسجد، تعد تلك الأماكن محمية، ما لم تفقد الحماية لأنها تُستخدم لأغراض عسكرية. ثانياً: إذا كان هناك شك في أن كياناً (عيناً) مدنياً قد فقد وضعه الوقائي، فيجب على المهاجم أن يفترض أنه محمي. ثالثاً: يقع عبء إثبات فقدان هذا الوضع الوقائي على عاتق أولئك الذين يطلقون النار أو القذيفة أو الصاروخ المعني.
أود أيضاً أن أشدد، في هذا السياق، على أن الإطلاق العشوائي للصواريخ من غزة على إسرائيل قد يمثل انتهاكات للقانون الإنساني الدولي، تخضع لسلطة المحكمة الجنائية الدولية.
فيما يتعلق بوصول المساعدات الإنسانية، فإن الموقف حرج، والقانون واضح. لقد كانت الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية واللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر صرحاء في عرض الحالة الإنسانية المتردية في غزة. وكما أكدتُ مراراً وتكراراً، يجب على المدنيين أن يحصلوا فوراً على الأغذية الأساسية والمياه والإمدادات الطبية التي تمس الحاجة إليها. نسمع تقارير عن عمليات جراحية تُجرى من دون أدوية أساسية، كما لو كنا في العصور الوسطى.
في معبر رفح، رأيت شاحنات مليئة بالبضائع، ومليئة بالمساعدات الإنسانية عالقة، حيث لا أحد يحتاج إليها. ولا بد من السماح بدخول هذه الإمدادات إلى المدنيين في غزة من دون إبطاء.
إن إعاقة إمدادات الإغاثة على النحو الذي تنص عليه اتفاقيات جنيف قد تُشكل جريمة حرب. وأود أن أشدد، بأوضح العبارات الممكنة، على أنه يجب أن تبذل إسرائيل جهوداً ملموسة، من دون مزيد من الإبطاء، للسماح للمدنيين بالحصول على الغذاء الأساسي، والمياه، والدواء، ومواد التخدير، والمورفين.
كما أشدد أيضاً على «حماس»، وكل من له سيطرة في غزة، أنه عندما تصل هذه المساعدة إلى غزة، من الضروري أن تصل إلى السكان المدنيين، وألا يُساء استخدامها أو يُحول مسارها عنهم.
وأود أيضاً أن أشدد على أنه لا يمكن أن يكون هناك مبرر للهجمات على العاملين في المجال الإنساني، ولا سيما موظفي اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر. وهناك حظر محدد بموجب نظام روما الأساسي فيما يتعلق بأي هجمات من هذا القبيل.
كما يساورني قلق بالغ إزاء الزيادة الكبيرة في عدد الهجمات التي أبلغ عنها من جانب المستوطنين الإسرائيليين ضد المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية. ونحن نواصل التحقيق في هذه الهجمات. ولا بد من وقف جميع هذه الهجمات فوراً.
وقد أطلق مكتبي مؤخراً «OTP Link: رابط التوثيق بالرقم السري المتغير»، وهو منصة آمنة لتلقي الطلبات ذات الصلة بالوضع الراهن في دولة فلسطين وجميع الحالات الأخرى التي تتناولها المحكمة. وأشجع من لديهم معلومات ذات صلة على الاتصال بمكتبي؛ إذ إننا نتعاون مع جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة، سواء السلطات الوطنية، أو المجتمع المدني، أو جماعات الناجين، أو الشركاء الدوليين، للمضي قدماً في تحقيقاتنا. وسوف نُدقق في جميع المعلومات الواردة لضمان أن يُنظر للقانون بأنه يضطلع بدوره في توفير الحماية للفئات الأكثر ضعفاً.
وأدعو الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية والأطراف من غير الدول إلى المساعدة بصورة جماعية في صيانة اتفاقيات جنيف، والمساعدة بصورة جماعية في صيانة مبادئ القانون الدولي العرفي، وكذلك مبادئ نظام روما الأساسي، وتبادل الأدلة بشأن أي ادعاءات أو أي جرائم حتى نتمكن من التحقيق فيها بصورة مناسبة ومحاكمتها حسب الاقتضاء.
عند الاستماع إلى الروايات ومشاهدة الصور المروعة التي تخرج من إسرائيل وفلسطين، لا يسعنا إلا أن نتألم ونتحرك. هناك غضب واضح وإحباط مفهوم. إن من واجب مكتبي ألا يتصرف بناء على العاطفة وإنما على دليل موضوعي يمكن التحقق منه. إننا نباشر تحقيقاً جنائياً يتسم بالتركيز والإلحاح. وأود أن أبلغ جميع الأطراف، بأوضح الإشعارات، بواجبها في الامتثال للقانون الإنساني الدولي. وعندما تصل الأدلة التي نجمعها إلى عتبة الاحتمال الواقعي للإدانة، فلن أتردد في العمل وفقاً لسلطاتي.
لا ينبغي لنا أبداً التصور بأن الأمور من غير الممكن أن تتحرك إلى الأسوأ. وكما نرى بؤر العنف تتوسع في مختلف أنحاء العالم، سواء في أوكرانيا، أو في منطقة الساحل، سواء في دارفور، أو محنة الروهينغا، أو في أفغانستان، فإن هذه لحظة يتعين علينا فيها التمسك بقانون يُمثل تراث كل البلدان والشعوب. إنه واجبنا الجماعي أن نفعل ذلك.
* المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية