غزت مئات الكلاب السائبة الشوارع في تونس مما أثار قلقاً مزدوجاً في بلد تهمش فيه الخلافات السياسية المتصاعدة بين السلطة والمعارضة بشكل كبير مثل هذه القضايا. ولم تنجح الدعوات المتصاعدة لوضع حد لهذه الظاهرة في إفراز مقاربة تحظى بالإجماع وقادرة على معالجتها، حيث يوجد هوة عميقة بين رؤى التونسيين المنقسمين على أنفسهم تجاه الحل.
ففيما يدعو كثيرون إلى القنص والتخلص من هذه الكلاب فإن عدداً من النشطاء وجمعيات الرفق بالحيوان يعارضون ذلك بشدة، ويبذلون جهوداً مكثفة لتأمين الكلاب السائبة وتطعيمها ومداواتها، في ظل مخاوف من انتقال عدوى الأوبئة والأمراض بخاصة لدى الأطفال الذين يعمدون في أحيان كثيرة إلى استفزاز هذه الكلاب.
"يهاجموننا ونخشى الأوبئة"
في محافظة بن عروس، المتاخمة للعاصمة تونس، وهي من المدن التي يسودها هدوء على رغم الأنشطة الصناعية والزخم الذي تعرفه، تسرع خديجة وهي أم لطفلين وسط المدينة خشية ملاحقتها من قبل مجموعة من الكلاب المتمركزة قبالة المكتبة العمومية.
تقول خديجة لـ"اندبندنت عربية" إنها "تهاجمنا وتبث الرعب في نفوسنا، كنت بصدد إيصال طفلي للمدرسة الذي أخشى عليه بشكل دائم من إمكانية مهاجمته عندما يكون وحيداً". توضح "بالنسبة إلينا لا يهم كيف سيتم التصرف مع هذه الكلاب التي أضحت تسيطر على بعض الشوارع، على السلطات أن تتحرك بأي طريقة".
ويهز عواء الكلاب المنطقة التي تشهد حركية متزايدة كونها تضم المكتبة العمومية المحلية وأيضاً نقطة عبور من قبل الطلاب الذين يدرسون في مدارس محاذية لها.
يقول إبراهيم الجباري من ساكني المنطقة "في الليل أو النهار نهاجم من قبل عدد كبير من الكلاب المشردة التي لا نعرف حتى ما إذا كان قد تم تطعيمها ضد الأوبئة المنتشرة في بعض الحيوانات".
وأوضح الجباري (34 سنة)، بينما كان يهم للعودة إلى منزله من المقهى "عندما أعود في الليل إلى البيت من المقهى أتعرض للملاحقة من قبل هذه الكلاب التي تبدو جائعة وقادرة على إيذائي كما غيري، لا أعرف إذا كانت الحكومة تدرك حجم الخطر الذي نحن معرضون إليه".
وكانت السلطات الصحية في البلاد كشفت في وقت سابق عن تسجيل 195 إصابة بفيروس داء الكلب في العام الماضي وخمس وفيات.
وفي محافظة قابس الواقعة جنوب البلاد توفيت طفلة في مايو (أيار) الماضي بعد مهاجمتها من طرف كلب سائب، مما أثار وقتها سجالات قوية في شأن ظاهرة الكلاب الضالة.
ولطالما أثارت ظاهرة الكلاب السائبة في تونس جدلاً واسع النطاق من دون أن يتم التوصل إلى سياسة واضحة المعالم بشأنها، إذ اعتمدت السلطات منذ عقود على القنص الذي يضع حداً لحياة هذه الكلاب، لكن هذه السياسة باتت تواجه رفضاً متنامياً.
وكان والي محافظة بن عروس عز الدين شلبي دعا في أغسطس (آب) الماضي رؤساء المجالس البلدية إلى تنظيم حملة لقنص الكلاب بعد تسجيل انتشار مكثف لها، في خطوة واجهت رفضاً واسعاً من قبل المنظمات والجمعيات المدافعة عن الحيوانات.
أتعرض لتهديدات
عند الحديث عن الكلاب السائبة في تونس فإن الملف يبدو شائكاً ومعقداً، إذ يتداخل فيه عمل المجالس البلدية والسلطات المركزية وجمعيات الرفق بالحيوان، لكن أيضاً المبادرات الفردية التي تستهدف العناية بهذه الكلاب وتحصينها من القتل.
في مدينة مقرين التابعة لمحافظة بن عروس يبذل الشاب راغب السويسي جهوداً كبيرة من أجل الاعتناء بالكلاب السائبة مع رفاقه، لكنه لا يخفي تعرضه لتهديدات قوية سواء من الجيران أو غيرهم بسبب هذه الجهود، إذ يعتبر السكان أنها السبب وراء انتشار الكلاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول السويسي إن "الحل يكمن في البحث عمن يتبنى هذه الكلاب أو منحها لجمعية لحماية الحيوانات. عوضاً عن قنصها قدمت بعض الحلول إلى السلطات المحلية، لكن هناك مماطلة في قبول المقترحات أو بدء العمل بها، وأعطاني مثلاً رئيس البلدية في منطقتي شروطاً تعجيزية لإنقاذ الكلاب من خلال ضرورة إنشاء جمعية، وهو أمر يقتضي عديداً من الخطوات مثل إيجار منزل لإيواء هذه الكلاب وإيجاد أعضاء للجمعية وهي عملية صعبة".
يضيف "شخصياً كانت لدي فوبيا من الكلاب تخلصت منها من خلال رعاية أول كلبة أويتها عندي، لكن ما لاحظته هو أن هناك عداءً كبيراً للحيوانات من قبل تونسيين كثر"، مشيراً إلى أن "سياسة البلد تجاه الكلاب السائبة فاشلة على رغم أن المسؤولية مشتركة". يوضح أن "هناك تهديدات مثلاً أتعرض إليها شخصياً بسبب إيوائي الكلاب أو تقديمي الطعام لها في الشارع من قبل تونسيين. إنهم يفضلون القنص الذي هو سياسة فاشلة منذ عام 1978".
وقال "سأغير مسكني في ديسمبر (كانون الأول) المقبل بسبب انزعاج الجيران أيضاً من اعتنائي بالكلاب، على رغم أنه الآن لم يتبق عندي سوى كلبة واحدة"، مؤكداً أن "القنص هو الخيار الأسهل الذي تم اللجوء إليه من قبل السلطات والمواطنين لكنه ليس الخيار الوحيد والأمثل".
ورفضت عديد من البلديات التونسية في وقت سابق دعوات من السلطات لتنظيم حملات قنص للكلاب السائبة على غرار رئيسة بلدية العاصمة سعاد عبدالرحيم، وأيضاً عديد من البلديات في محافظة بن عروس وغيرها.
التعقيم هو الحل
من جانبها، نجحت جمعيات ومنظمات تونسية في إقناع السلطات بضرورة تبني مقاربات جديدة في معالجة ظاهرة الكلاب المشردة، بدلاً من الإبقاء على سياسة القنص التي لم تثمر بعد عن نتائج تبعث على الاطمئنان.
وقالت سهام العوني رئيسة جمعية "برج الجهمي" المدافعة عن حقوق الحيوان "في عام 2018 قررنا في بلدية سليمان (في محافظة نابل الساحلية) طرح ملف قنص الكلاب على النقاش من خلال مقاربات جديدة. ونجحنا بالفعل في إقناع رئيس البلدية بأن هذه السياسة لم تعط نتائج إيجابية".
وأردفت العوني في تصريح خاص أن "في تونس أكثر من 20 عاماً تم اعتماد هذه السياسة من دون النجاح في التقليص من ظاهرة الكلاب السائبة. استشهدنا بمثال قدمته بلدية إسطنبول التركية حيث تم العمل على التعقيم وهي سياسة ناجحة، وبدأنا في 2019 المصادقة على مشروع التعقيم حيث سلمتنا البلدية مكان المستودع البلدي وشيدنا فيه مقر مركز لتعقيم الكلاب السائبة".
تعطي الجمعية نموذجاً بالإمكان استنساخه في محافظات أخرى، حيث يتم تجميع الكلاب وتطعيمها وتلقيحها كل يوم أربعاء ثم إطلاقها، كما تخضع الكلاب لعملية مراقبة طبية مستمرة.
وحول أسباب انتشار الكلاب السائبة في تونس، اعتبرت العوني أنها "تعود إلى استقدام هذه الكلاب من قبل العاملين في مجال البناء عند قيامهم ببناء أي منزل أو عمارات جديدة من أجل حراسة المعدات ثم تركها، وهنا يقع تكاثر هذه الكلاب لكن إذا لم يتم العمل على مشروعنا سيتم التقليص من عدد الكلاب السائبة وتكريس التعايش معها بطريقة سلمية".
"القنص جريمة"
وفي محافظة سوسة شرق البلاد، تقدم تيزيانا قامانوسي، رئيسة جمعية "حدائق الملائكة" نموذجاً في إنقاذ الكلاب السائبة في تونس.
وتقول قامانوسي وهي إيطالية إن "قنص الكلاب جريمة. ماذا فعلت الكلاب السائبة حتى نقتلها؟ الكلاب السائبة هم خطأنا نحن البشر وليس خطأ الحيوانات، يجب علينا تحمل مسؤولياتنا وإيجاد حل لها".
كانت قامانوسي روت لنا بحرقة المشكلات التي تعرضت لها بسبب عنايتها بالكلاب في تونس، فقد تعرضت لعديد من الحوادث، بينها هجوم قام به مجهولون واستهدف ملجأ أنشأته لاحتواء الكلاب السائبة في جزيرة جربة التونسية. وتم خلال هذا الهجوم في يوليو (تموز) عام 2020 قتل ما لا يقل عن 20 كلباً في خطوة أعرب كثيرون عن استنكارها.
وقالت إنه "منذ صغري كنت أهتم بالحيوانات، كان دائماً لدي كلب وقطة أو الاثنان معاً. كنت مستقرة في ليبيا وعندما بدأت الحرب الأهلية هناك جمعت كل كلابي وقططي وكل أغراضي وقدمت إلى محافظة جرجيس التونسية، وهناك تم قتل كلبتي من قبل الشرطة".
وأضافت "ومن هناك تنقلت إلى جربة، وبقيت هناك إلى 2019 وأمنت حيواناتي لكن المشكلات التي تعرضت إليها كانت من قبل الجيران، ولذلك تنقلت إلى أماكن أخرى إلى أن استقررت الآن في مدينة القلعة الكبيرة بمحافظة سوسة، حيث لدي تقريباً 300 كلب وأيضاً أعتني بالقطط".
واعتبرت قامانوسي أن "المشكلات تتمثل في أن الكلاب تزعج الجيران أحياناً، هناك تقريباً خمسة في المئة من الناس في تونس يحبون الكلاب، يبقى الحل في مداواة الكلاب وإطلاقها، لكن في تونس الجيران يشكون إلى الشرطة من أن الكلاب تزعجهم بالضجيج وغيره".
وعلى رغم هذه الجهود فإنه لم يتم تسجيل استدارة من السلطات نحو معضلة الكلاب الضالة في تونس، حيث لا تزال عمليات القنص مستمرة عندما يهز صوت الرصاص صمت وسكون الليل.
وتم في العام الماضي توجيه لائحة إلى الرئيس قيس سعيد وقع عليها أكثر من 44 ألف شخص وجمعية، تدعوه فيها إلى التحرك في أعقاب توليه غالب الصلاحيات من أجل وضع مشروع لحماية الحيوانات في تونس ووقف عمليات القنص واعتماد سياسة تحصن الكلاب الضالة.
لكن السلطات لم ترد على هذه اللائحة، إذ تسيطر الأزمات الاقتصادية والسياسية على المشهد في تونس، وسط تجاذبات قوية بين السلطات والمعارضة بعد قلب الرئيس سعيد الطاولة على الجميع في يوليو 2021.