القيم والسيادة في خطاب القوى العظمى والصاعدة

منذ 6 أشهر 111

تدَّعي السياسة الأميركية تبنّيها مفهوم العدالة الدولية وفقاً لمكانتها الدولية وبوصفها القوة المهيمنة في النظام الدولي

ويقوم مفهومُ فرض العدالة الأميركي على أنَّه يحقّ لأميركا توظيف أجهزة النظام الدولي، والتلويح بفرض القانون حين تكون القضية مواتية للمصالح الأميركية، بصرف النظر عن طبيعة القضية وأطرافها.

ووفقاً لهذا المفهوم، وفي ضوء تطبيقاته الأميركية، كان يبرز باستمرار التساؤل السياسي والقانوني حول حقيقة القانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة والقيم الإنسانية التي تدَّعيها السياسة الأميركية منذ عقود ولا تطبِّقها، لا سيما عندما يتعلق الأمر بقضايا الشرق الأوسط وأمنه الإقليمي، حتى شاعت مساءلة الساسة للقانون والقيم والضمير العالمي في سياق مناقشة القضايا الكبرى في الشرق الأوسط، فبات الضمير العالمي أيقونة خطابية للخطب السياسية في الشرق الأوسط إبانَ العقود المنصرمة.

ثم أصبحت القيم أداة لتداول القوة إبانَ سنوات التحول القليلة الماضية والحالية، لا سيما عام 2020 الذي يعد العام الأكبر تأثيراً، والمفصلي بين مرحلتين ثقيلتين مختلفتين من التطور والتغيير، والتي أسهمت منطقة الخليج العربي بشكل أو بآخر في رسم ملامحها.

لقد حوَّلت أهمية منطقة الخليج العربي طبيعة الصراع إلى مستوى مختلف في هذه المرحلة، فدارت بوصلة الحرب الأميركية - الروسية - الصينية حول القوة والنفوذ إلى موارد الطاقة، التي قادت تلك السياسات إلى مستوى مختلف من مستويات النزاع، مداره صراع القيم، الذي استثمرته تلك القوى على جميع المستويات العسكرية والاستراتيجية والإعلامية.

فعلى الرغم من الحديث عن تراجع الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الخليج خلال العقدين المنصرمين في الدوائر الغربية، فإنَّ الحرب الروسية - الأوكرانية أثبتت هذه الأهمية الاستراتيجية مجدداً للعالم أجمع، بوصف هذه المنطقة الأهم في ضمان أمن الطاقة ومركزيتها لاستقرار الاقتصاد العالمي، ومن ثم فإنَّ أمنها الإقليمي يعد من مرتكزات الأمن العالمي. فيما شكَّل التحرك الميداني العسكري الروسي ضد أوكرانيا إعلاناً لتغيّر ميزان القوى العالمي.

إنَّ تعدد المعطيات التي يمكنها أن تؤثر في وصف المشهد الدولي أسهم في ظهور التنافس القيمي الذي تشهده الساحة الدولية مؤخراً، وقد أخذ الهجوم على القيم الأميركية واستعراض القيم حيزاً مهماً في الخطاب السياسي الروسي، والخطاب السياسي الصيني، فضلاً عن سعي هذه الدول الكبرى للقوة والنفوذ، مستثمرةً عرض وتفكيك ومناقشة الأسلوب الأميركي في استغلال أحد أهم عناصر النفوذ الأميركي المتمثل في قيادتها للنظام الدولي، عبر استراتيجيات الخطاب السياسي لتلك الدول على اختلافها.

إنَّ حضور القوى الصاعدة العظمى في منطقة الخليج العربي مؤخراً خلَّف صراعاً من نوع مختلف، مداره استثمار المبادئ في حيازة المصالح إبان توجيه الواقع السياسي، وينص على استغلال جميع موارد كسب الثقة وقبول الآخر بدءاً من الأخلاق إلى القانون والدين، الأمر الذي جعل الثقافة العربية من اللغة إلى هموم المجتمعات ومحافلها حاضرةً في اهتمامات الجانب الأميركي والروسي، وكذلك الصيني، وذلك بعد أن ركَّزت المملكة العربية السعودية جهودَها على تجفيف موارد النزاع التي تبثها الأجهزة الأميركية في المنطقة، في سبيل استثمار مواردها بما يعود عليها وعلى المنطقة بالأمن والازدهار.

ولعلَّ أمر المبادئ قد لاح عالمياً مؤخراً، ليس على صعيد الجانبين الأميركي والروسي وحسب، بل ظهر أثره في الخطاب السياسي للجانبين الروسي والأوكراني إبان الأزمة الروسية - الأوكرانية، وفي خطاب بعض الدول الأوروبية، وذلك بعد أن تفوَّقت المملكة العربية السعودية في إدارة أسعار النفط عالمياً، في ظل الأزمات الجيولوجية والسياسية العسكرية الأخيرة، فظهر النصّ العربي في بعض الخطابات السياسية الغربية، نحو الخطاب الأميركي، واستثمر بعض الساسة الآيات القرآنية، بمن فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مما ينبئ بأنَّ القوة الاقتصادية التي تمتلكها السعودية -وأثبتت أمام العالم تمكّنها التام من إدارتها، بما يخدم مصالحها ويسهم في صعودها إلى مصافِّ الدول النامية الكبيرة- أصبحت تتحكّم في مصير جزء كبير من العالم، بما في ذلك دورها في توجيه أسواق النفط عالمياً إبان أزمة وباء «كوفيد 19»، وفي بداية الأزمة الروسية - الأوكرانية.

ولعلَّ هذا أحد مسوغات إصرار الجانب الأميركي على استثمار القيم والأخلاق في الخطابين السياسي والإعلامي الأميركيين، وذلك عند تأجيج قضايا النزاع وتسيير الشؤون الدولية في الشرق الأوسط، رغم تراجع شعبيته وانعدام الثقة به على المستويين السياسي والشعبي في المنطقة، فإلى جانب تمكنها من أجهزة النظام الدولي، يتضمَّن الخطاب الأميركي كلَّ أسباب الإقناع الخطابية بما فيها معرفة أحوال المتلقي وثقافته وتطلعاته، ولكنَّ الإخفاقات المقصودة المستمرة، التي تأتي نتيجةً لتلك الخطابات أصبحت مأخذاً على الجانب الأميركي، ومأزقاً يقع فيه الساسة الأميركيون مؤخراً في مواجهة السياسة الروسية التي تستثمر تلك الإخفاقات في المناسبات والمحافل الدولية، مما ينبئ بأمرين، أحدهما تغيُّر السياسة الأميركية تجاه قضايا الشرق الأوسط، والآخر تفوق السياسات المنافسة الأخرى في استثمارها الإخفاقات الأميركية، مما يعني قوة الجانب الأخلاقي في الخطاب السياسي الذي يدّعي منظِّرو السياسة الحديثة ضموره واضمحلاله، فيما لا يزال يسجل حظوة وحضوراً.

إنَّ فهم هذا من شأنه أن يُسهم في تفسير العلاقات الدولية بين أميركا والقوى الصاعدة العظمى في هذه المرحلة، وفهم علاقة ذلك بالشرق الأوسط والتطورات الأخيرة، وكشف رغبات تلك القوى وتطلعاتها لا سيما في منطقة الخليج العربي.

فنقاش الأخلاق وسؤال الضمير في خطاب القوى الصاعدة لا يعدو كونه مرحلة من مراحل التغيير الاستراتيجي والسياسي، لا سيما في مثل هذه المراحل المهمة والمفصلية من تاريخ العالم، كذلك ما يحدث من مراوغة في هذا الشأن ليس حكراً على السياسة الأميركية وإن اشتهرت به.

ولكنَّ القيم التي هي أداة من أدوات الفاعل السياسي الخطابية والاستراتيجية، تسيّرها المرحلة وتحتاج إليها.

فإذا كانت القوى الصاعدة العظمى متمثلةً في روسيا والصين تسعى لمحاكاة النموذج الأميركي بتجنب أخطائه، وتقديم نموذج يستثمر إخفاقات الجانب الأميركي بتوفير بديل محدَّث، فإنَّها تقدم نفسها بوصفها قوى عظمى بديلة، متخذةً الخليج العربي، لا سيما المملكة، إحدى خطواتها، ولعلَّها أهم خطواتها، وهي بذلك تفصح ضمناً عن طموحها في فرض واقعها الجديد الذي ينزع إلى التعددية القطبية للقوى في العالم، وتثبت مكانة المملكة العربية السعودية وثقلها ودورها المحوري في تحريك موازين القوى وإرسائها ضمن التغيرات العالمية الثقيلة التي تَحدث مؤخراً.

وهذا لا يعني احتكار السياسة الأميركية استراتيجية القيم والأخلاق، التي عُرفت أداةً أميركيةً في ضوء اعتبارات مخصوصة منها القدرة والقوة والنفوذ، بل لقد أصبحت الأخلاق ضمن التصورات الحديثة أيقونة للقوى العظمى، فلمَّا تسيَّدت أميركا العالم كانت تفرض الأخلاق بقوة السلاح، ولمَّا حانت الفرصة لما تسمى التعددية القطبية هاجمت الدول الصاعدة الكبرى أخلاق السياسة الأميركية، واستعرض بعض الدول طموحها في الريادة عبر القيم والأخلاق كذلك، فكان الخطاب الأخلاقي من أهم أدوات الساسة في هذه المرحلة. فالأخلاق ضمن التصور الأميركي أداة استراتيجية عسكرية، ولكنَّها في ضوء التعددية القطبية باتت «زهوراً جميلة يزيِّن بها كل فريق اختياراته وممارساته السياسية، ويزركش بها الفاعلون السياسيون مجالهم الحيوي القائم على (الصراع القاتل) من أجل الفوز في المجال».

وكما كانَ للقيم أهمية استراتيجية في تسيير الشؤون السياسية لدى القوى العظمى والقوى الصاعدة، فإنَّها تعدُّ ركيزة من ركائز الحكم لدى الساسة في المملكة العربية السعودية على الصعيدين الدولي والمحلي، في سياق ثابت متواتر في العهود السياسية السعودية، لا سيما منذ بدء الأزمة الفلسطينية، التي لا يزال موقف المملكة تجاهها واحداً وثابتاً حتى يومنا هذا.

وعلى الرغم من الضغوط الدولية التي تواجهها المملكة في سياق التطبيع والقضية الفلسطينية، ظلَّت متمسكة بحل الدولتين على حدود 67، وهو الحل الذي تمسَّك به الساسة في المملكة طيلة العقود السياسية الماضية.

إنَّ القيمَ في الخطاب السياسي السعودي عنصرٌ وليست استراتيجية، لهذا عُدَّ الخطاب السياسي السعودي خطاباً دالاً في مجمله، فما زال رغم أخلاقيته مرتبطاً بالواقع ملازماً له على الصعيدين الدولي والمحلي، ولعلَّ النهضة الاقتصادية والصناعية التي تشهدها المملكة جانبٌ من جوانب أخلاقية الخطاب السياسي السعودي في سياقه المحلي.