القشطيني يغادر ضاحكاً..!

منذ 1 سنة 212

بين خالد القشطيني، الذي رحل عن عالمنا منذ يومين، وأستاذه الملهم جورج برنارد شو الكاتب والمسرحي الآيرلندي المولد، والإنجليزي النشأة، مساحات مشتركة، أهمها الإنسان وقضيته، وهمومه.

كلاهما امتهن الأدب الساخر، ليس فقط للإمتاع والبهجة، وإن كانا هدفاً عالياً وسامياً ورحيماً في ظل ما يكابده الإنسان من عنت وتعب وعذاب... لكن الأديبين امتهنا الأدب الساخر (أيضاً) للتعبير عن همّ الإنسان وهموم المجتمع، والحاجة للتنفيس عن الاختناقات النفسية، والروحية، التي يعاني منها، ومقاومة البؤس والكآبة، وكشف متناقضات الواقع وإشكالاته وتعقيداته، فالسخرية كانت الوسيلة القديمة الجديدة التي يلجأ إليها الإنسان للهروب من واقع سوداوي مرير، وتفريغ مخزون المعاناة داخله، وعلى رأي عالم النفس النمساوي ألفريد إدلر (1870 - 1937)، فإن السخرية هي «خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز»، لكن السخرية برأيه تمنح الناس شعوراً بالرضا «لأننا ننزع إلى الرضا عن أنفسنا والاسترواح إلى شعورنا، عقب مطاوعة السخرية والانسياق معها».

وروح الظرافة سمة الشعوب المتسامحة، المحبة للحياة، القادرة على تفرغ عقدها الاجتماعية في قوالب ساخرة، فالناس يلجأون للنكتة كلما كانوا أقرب إلى البساطة والطيبة، وعلى رأي الكاتب الروسي فيودور ديستوفيسكي (1821 - 1881)، فإن «السخرية هي الملاذ الأخير لشعب متواضع وبسيط».

عاش القشطيني 94 عاماً، كما عاش برنارد شو 94 عاماً، كلاهما نظر إلى الحياة بعمق وبصيرة، رغم الإيقاع الساخر الذي كانا يعزفان عليه ويقدمانه للناس. يقول القشطيني إن برنارد شو هو معلِّمه الأول ومرجعيته الأساسية في الكتابة الساخرة، وبرنارد شو يشرح أسلوبه في السخرية، قائلاً: «إن أسلوبي في المزاح هو أن أقول الحقيقة... وعندما يكون الشيء مُضحكاً أبحث عن الحقيقة الكامنة وراءه».

القشطيني صاحب كتب «الظُرف في بلد عَبوس»، و«من جد لم يجد»، و«فكاهات الجوع والجوعيات»، و«عالم ضاحك... فكاهات الشعوب ونكاتها»، و«السخرية السياسية العربية»، كان يسير على منوال أستاذه الإنجليزي، حتى في حركته، كثيرون شاهدوه يتجه نحو العمل في صحيفته الأثيرة «الشرق الأوسط» ممتطياً دراجته الهوائية في شوارع لندن الممطرة، قال ذات مرة: «أعتقد أن أمي حينما أنجبتني كنت أحمل جريدة تحت إبطي! فالفكاهة والسخرية تسريان في دمي منذ الطفولة».

أما الأسلوب الذي كان يكتب القشطيني به فهو أسلوب نادر في الصحافة العربية، فالكتابة الساخرة ضرورة لأن صرامة الواقع انعكست على المنتجات الأدبية شعراً وسرداً وفناً، فانحسر فن الأدب الساخر، رغم أنه حاجة، ليس للتنفيس فقط، وإنما للنقد الاجتماعي والسياسي والتخفيف من غلواء الواقع.

ربما كان شاعر المهجر الكبير إيليا أبو ماضي، المتوفى قبل أكثر من نصف قرن، يجادل عصرنا الحالي الذي تحاصره الكآبة أينما ولى..! فهو القائل:

قال السماء كئيبة! وتجهما

قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما!