"اهتمام استثنائي" توليه ربات المنازل لـ"الفيترينة" المعرض المرئي لمقتنياتها النفيسة، الممنوع استعمالها أو لمسها. هذه "الفيترينة" تحولت مصدر إلهام لمحبي الفكاهة عن طقوس خاصة بالأم العربية.
هذه الرفوف التي تتصدر دار المنزل وغرفة الطعام، بصحونها المزركشة، والأكواب والفناجين والصواني، وغيرها من الأواني لن تنزل من عليائها إلى مائدة الطعام إلا في مناسبات نادرة، كأنها عين تراقب تتابع الأجيال في المنزل ولا تتحرك من أمكنتها.
تتساءل وأنت صغير عن دورها الغامض في الحياة اليومية للعائلة، وعندما تبلغ سن الرشد تكتشف أهميتها الوجدانية في الذاكرة، هذه الأواني والمقتنيات هي من علامات الذوق الفني عند الوالدة خصوصاً، وتتحول لاحقاً جزءاً من الميراث الذي ينتقل بين الأجيال.
ممنوع من اللمس
منذ ستة عقود من الزمن، تقوم السيدة نهى بمهمة تنظيف "الفيترينة" مرتين في العام، وبصورة دورية تخرج ما لديها من أطقم السفرة، والصحون وأكواب الكريستال والمزهريات لتقوم بغسلها وتلميعها، قبل أن تعيدها إلى تلك الواجهات الزجاجية، كانت تقوم بهذه المهمة منفردة، ولكن بعد أن ضعفت قواها باتت تطلب العون من الأبناء والأحفاد.
السيدة نهى أحضرت جزاًء كبيراً من الأطقم في "جهاز العرس" ثم أضافت ما تيسر لها من أطقم "البورسلان"، و"المورانو"، وتحف فنية قد يتجاوز عمر بعض القطع 100 عام في سلسلة "التوريث" من الجدة إلى الأم إلى الحفيدة. تجد السيدة الثمانينية صعوبة في الاستغناء عن أي من تلك القطع، وأحياناً يكتشف الأبناء قطعاً نادرة خلال عملية التوضيب، يعلق أحد الأبناء "لا نذكر أن سبق لنا استخدام تلك الأطقم على طاولة العشاء، أو في مناسبة اجتماعية، كل ما نعرفه هو الكلام عن جهاز احتياطي لأحوال طارئة". فيما تفسر السيدة مريم وجهة نظرها "هذه القطع فاخرة، وهي للعرض، ولإضفاء مسحة جمال في الصالون، وستفقد قيمتها إذا انكسرت قطعة، ولم تعد الدزينة مكتملة".
أخيراً تراجع الاهتمام بـ"الفيترينة"، ولكن تشير سيدات من الجيل السابق إلى وجود قواعد متعارف عليها في تكوينها، "يجب أن يكون هناك طقم "سرفيس" كامل من كل شيء، ويفضل أن يكون فرنسياً أو ألمانياً"، إضافة إلى التركيز على الكريستال التشيكي والبوهيمي، وأطقم الفضيات، والبلوريات الرقيقة، والملاعق والشوك والسكاكين المتناسقة"، ناهيك عن وجود جهاز "كروشيه" ملائم ليعطي الطابع الأنيق، كما نضم إليه بين الفترة والأخرى قطعاً إضافية "تقاعدت" عن الاستخدام المنزلي". تعترف السيدة بوجود قطع عمرها حوالى 40 عاماً، ولم يسبق لها أن استعملتها، أو استعملت بعضها لمرة واحدة، وبصورة استثنائية، "نحن نمتلك عشرات الصحون والأكواب في حال حدثت وفاة أو فرح بصورة مفاجئة".
واجهة ثقافية
إلى جانب "الفيترينة الكلاسيكية"، تتواجد في صالونات العائلات الميسورة أو حتى "صاحبة المزاج"، واجهات خاصة تعكس الميول الثقافية والاجتماعية. زوايا خاصة بالمسابح، أو الأسلحة القديمة، أو الأحجار الكريمة، إلى جانب العملات القديمة ومن خلال هذه المعالم المنزلية يمكن قراءة تاريخ العائلات ويومياتها. المكواة التي تعمل على الفحم، أو الجاروشة الحجرية، أو حتى المهباج، وآلة طحن البن اليدوية، وبرادات الشاي، والعصي المرصعة، غيرها وغيرها من الأغراض التي تكتسب قيمة وجدانية لدى المالك، ولا يمكن أن ننسى "الفيترينة" الخاصة بالكتب الفاخرة القديمة.
إرث الزمن البرجوازي
يؤصل المهندس وسيم ناغي الجذور التاريخية لـ "الفيترينة"، التي تمتلك أصولاً أوروبية، بدءاً بعصر النهضة، وما تلاه من تأكيد خصوصية الفرد، وظهور طبقة التجار والفنانين والعلماء، ونشأة الطبقة البرجوازية وظهور الرفاهية وما تلاها من ثورة صناعية وفائض في الإنتاج. يشير ناغي "أدى ازدياد أهمية غرفة الطعام إلى ظهور "الفيترينة" لعرض الخزفيات والأواني الثمينة وغيرها من التحف والقطع النادرة. ترافقت مع تطور صناعة المفروشات الأوروبية، والعمارة العثمانية في القرن التاسع عشر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، أصبحت "الفيترينة" قطعة أثاث أساسية في البيوت اللبنانية، ولم تعد تقتصر على عرض التحف القديمة، وإنما لعرض الأغراض الثمينة من وجهة نظر ربة المنزل، ولكن يلاحظ وسيم ناغي تراجعاً في مكانة "الفيترينة"، ويقول "نتجه في القرن الحادي والعشرين إلى القطع العملانية، بسبب الحجم المحدود للشقق، وأصبحت المقتنيات المعروضة حكراً على القصور الكبيرة ومنازل الطبقة الثرية".
قطع في المزاد
ويلاحظ تجار "الأنتيكا" إقدام كثير من المالكين على بيع المقتنيات بسبب الحاجة الاقتصادية، كذلك يبادر الأبناء والأحفاد إلى بيعها بعد حالات الوفاة، دونما اعتبار إلى أهميتها. بحسب التاجر محمد شومان "يعرض علينا حالياً كثير تحت وطأة الأزمة الاقتصادية لأن الضرورات تبيح المحظورات"، مضيفاً "في المقابل، هناك من يتحين الفرص وخصوصاً المهتمين بالقطع ذات القيمة التراثية، إذ يعبرون عن استعدادهم لشراء مجموعات كاملة"، مضيفاً "نتفاجأ أحياناً بالفن والحرفية المستخدمة في صناعة بعض المقتنيات، من قطع السلاح، والعملات، والأحجار الكريمة، وما لم يخطر في بالنا".
ويوضح شومان أن "البيوت اللبنانية غنية جداً بالأطقم، والمجموعات التي جمعتها العائلات عبر الأجيال"، وهي "تعطي دروساً من الماضي وكيف تطورت الأواني خلال مئة عام".