الفوضى تعم مطاعم لندن بسبب تبعات "بريكست" وكورونا

منذ 1 سنة 167

للندن مكانة خاصة في قلوب الذواقة. في العصر الذهبي لعضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، يمكن أن نقول إن العاصمة كانت من أفضل المدن الأوروبية، إن لم نقل الأفضل، في مجال المطاعم. على رغم تفوق باريس عليها في دليل ميشلان للمطاعم (إذ تضم العاصمة الفرنسية 119 مطعماً حائزاً على نجمة ميشلان مقارنة بـ74 في لندن)، فإن التنوع الكبير في المدينة مكنها من البروز في هذا القطاع، إذ يمكن للمرء أن يجد في شوارعها كل مطابخ العالم تقريباً.  

لكن الأمور تغيرت في الآونة الأخيرة، وقد لاحظ الناس ذلك. الأسبوع الماضي، غردت ليلي آلن قائلة، "لقد أقمت غالب الوقت في نيويورك منذ كوفيد، لذا، فإن الفترة التي قضيتها في الخارج كافية لكي ألاحظ مدى التراجع في مستوى مطاعم لندن… أما توصيل المأكولات الجاهزة أو تسلم الطلبيات في المنزل، فأسوأ بعد. لست أعلم إن كان السبب بريكست أو مطابخ الأشباح أو التضخم أو خلافه، لكن هذا الأمر مؤسف فعلاً". ومن الواضح من خلال منشورات منصات التواصل الاجتماعي ومراجعات المطاعم على الإنترنت أن رواد مطاعم كثيرين يشاركونها هذا الرأي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تلقى قطاع المطاعم الضربة تلو الأخرى خلال السنوات الماضية، بدءاً من طلاق المملكة المتحدة الفوضوي من الاتحاد الأوروبي في عام 2016. وبينما كان يحاول التعافي من بريكست الذي كبده كلفاً إضافية ومعاملات بيروقراطية جديدة ونقصاً في اليد العاملة، أتته صفعة كوفيد. أرغمت المطاعم على إغلاق أبوابها لفترات غير محددة من الوقت، والتعامل مع قوانين جديدة مربكة واختراع طرق توصيل جديدة وكاملة للمأكولات من العدم. والآن، يفرض على القطاع أن يتحمل عبء الأزمة المعيشية.

في مواجهة كل هذه الأمور، ربما من القاسي بعض الشيء أن ندين قطاع المأكولات المزدهر عادة في لندن ونعتبره "دون المستوى"، لكن مهما كان الموضوع مؤلماً، إلا أنه لا يخلو من الحقيقة. يخبرني بين أوربوود، المشارك السابق في مسلسل الواقع The Great British Menu على قناة "بي بي سي"، أنه على رغم قسوة تعبير آلن، فالملاحظة التي أدلت بها حول وضع القطاع ليست خاطئة تماماً.

يعمل أوربوود طاهياً لدى أرقى المطاعم منذ عقدين تقريباً، وقد شغل سابقاً منصب رئيس الطهاة في مطعم Lucky Cat الذي يملكه غوردون رامزي، لكنه يقول إنه لم ير أبداً وضعاً يشبه ما حدث عند افتتاحه المطعم الأخير الذي يعمل فيه، 20 Berkeley في منطقة مايفير. ويشرح بقوله "في العادة، عند افتتاح أي مطعم، يغادر بعدها 20 في المئة تقريباً من فريق عمل الافتتاح، إذ تفقد أشخاصاً تقدموا للعمل في مجال ليسوا مستعدين له كلياً، وغالباً ما يكون أسبوع الافتتاح صعباً والعمل خلاله كثيفاً جداً- لهذا يغادرون، لكن بعد افتتاحنا 20 Berkeley في يونيو (حزيران)، غيرنا كل الطاقم، باستثناء فريقي الأساسي. لم أر يوماً شيئاً كهذا".

ويقول إن الموظفين يتركون العمل حتى فيما تقدم لهم امتيازات منها تناول وجبتين يومياً وحق الحصول على عطل نهارية أو ليلية ومبلغ 13.5 جنيه استرليني في الساعة في الأقل للموظفين الذين لا يملكون خبرة سابقة، وبيئة عمل لطيفة في المطبخ- وهذا ما يختلف كلياً عن الصراخ الذي تحمله في بداية مسيرته المهنية. ويضيف أوربوود بذهول "تركنا الأسبوع الماضي شيف حلويات كان يناوب من الثالثة بعد الظهر حتى الحادية عشرة ليلاً، خمسة أيام في الأسبوع، ولا يعمل لمناوبتين متتاليتين، ولكن كمية العمل المفروضة عليه لم تعجبه. لا يمكنني أن أستوعب تلك العقلية. ما عادت الموهبة ولا الحافز للعمل موجودين، والمطاعم تتنازع على العدد القليل من الطهاة الشباب الموهوبين. عندما تواجهك هذه الأمور وأنت لا تزال مطعماً جديداً، فهذا يصعب مهمتك كثيراً".

ويشرح الشيف الذي لديه خبرة أكثر من 20 سنة في المجال أن اللوم يقع بشكل أساسي على تداعيات بريكست وكوفيد. تسبب بريكست في هجرة المواطنين الأوروبيين الذين شكك كثيرون من بينهم في ترحيب بريطانيا بهم. عندما انتشر كوفيد، عاد مزيد من الأشخاص إلى أوطانهم واكتشفوا فرص عمل جديدة هناك، فاختاروا ألا يعودوا إلى الأراضي البريطانية. ويضيف أوربوود "ثم تقول الحكومة ’سوف نسد النقص بعاملين بريطانيين شباب‘، ولكنها طرحت متطلبات أكاديمية لا داعي لها للتأهل لفترات التدريب مقابل حد أدنى للأجور لا يكفي لدفع إيجارات المنازل". يبلغ الحد الأدنى للأجور وطنياً للمتدربين بعمر 21 في السنة الأولى من التدريب 5.28 جنيه استرليني في الساعة الواحدة، فيما وصل متوسط بدلات إيجار غرفة في لندن إلى نحو ألف جنيه استرليني شهرياً.  

بالطبع، بعض العاملين في القطاع أكثر تفاؤلاً. يقول رئيس الطهاة في مطعم بالانس بين مولوك، "ما زلت أجد المطاعم مزدهرة وخلاقة. ما زال فيها طابع أصلي رائع"، لكن حتى أشد وجهات النظر تفاؤلاً لا يمكنها تجاهل أكبر وأبرز مشكلة تواجهها المطاعم في هذه الأيام: وهي نقص المهارات.  

ويشتكي مولوك بقوله "أعمل في الطهي منذ عمر الرابعة عشرة، لكن الوضع لم يكن على هذا الشكل في أي مرحلة من مسيرتي المهنية بأكملها، لكننا نسعى كثيراً ونلزم أنفسنا بمعايير أعلى لكي نحاول أن نمنح الناس التجربة نفسها مثل السنوات السابقة مع هذه القوى العاملة الجديدة. لذلك لا أعتقد فعلياً أن وصفنا من دون المستوى تعبير منصف". ويضيف أن من يعيشون في العاصمة يتمتعون "ببعض أفضل حواس التذوق في العالم" وأن إطعام سكان لندن "وإرضاءهم ليس يسيراً". ويتابع بقوله "لكن عندما تنجح في ذلك، ينتابك شعور مذهل".

ربما بالنسبة إلى أي شخص يقطن خارج لندن، وضع سقف التوقعات عند مستوى مرتفع بشكل مصطنع. وهناك احتمال كبير بأن ينشر المؤثرون الذين يدعون لارتياد مطاعم لديها ميزانية للتسويق مراجعات فيها كثير من المديح، كما يضيفون صوراً تفتح الشهية لهم وهم يتناولون طعامهم. في هذه الأثناء، وجهت أخيراً انتقادات لنقاد المطاعم في الصحف لأنهم لا يكتبون سوى عن المؤسسات الموجودة في المناطق الثرية أو تلك التي يدعون إليها. وهذا أمر لا يمكن تفاديه، نظراً إلى أن بعض الوسائل الإعلامية لا تدفع لوجبات النقاد- لكنه يخلق اقتصاداً زائفاً يعتقد فيه القراء أن هذه الأماكن هي الأفضل لتناول الطعام.

في مقاله "لندن تجد نفسها"، كتب محرر موقع فيتلز (Vittles)، جوناثان نن عن تراجع مستوى المراجعات وصعود نجم الخرائط المبسطة التي تبرز مواقع الأكل وتظهر أيضاً على شكل لوائح. لهذا السبب تعشق الخوارزميات تلك الفيديوهات المعنونة "10 أماكن مذهلة لتناول الطعام في لندن"، وسبب استماتة الصحف والمجلات لوضع لوائح للأماكن التي توصي بها. وكتب "إن المراجعات منمقة كثيراً، وإنتاجها مكلف جداً، يكتبها أشخاص يطالبون بالحصول على أجر جيد. من الأفضل بكثير إذاً تسليم المهمة إلى متعاقد مستقل يمكنه أن يبحث عن مجموعة من الأمور ويجمعها من دون أي سياق موحد". على المرء أن يتساءل إن كان هذا أيضاً أسهم في كون المطاعم لا ترقى إلى مستوى التوقعات- ربما لا يلقي أي أحد نظرة متفحصة على الموضوع.   

لكن خبير التواصل لصالح المطاعم هيو سميثسون-رايت، يقول إن هذا القطاع ليس أقل من مستواه العادي، بل إن مطاعم المستوى المتوسط موجودة بكثرة دائماً. ويقول "لا يمكن للجميع أن يكون مذهلاً. بعض مطاعمي المفضلة أماكن يعتبر الطعام فيها لا بأس به". إنما يجب التمييز هنا، "فالمستوى المتوسط مقبول إن كان لا يكلفك مبلغاً كبيراً. والسعر الباهظ مقبول إن كان الطعام مذهلاً، لكن الآن، مع ارتفاع أسعار كل شيء بالنسبة إلى الجميع على اختلاف مدخولهم، ارتفعت أسعار المطاعم العادية أكثر، وأصبح حجم الوجبة أقل ونوعية المكونات أقل ثمناً، وهذا ما لا يمكننا أن نتقبله". 

ويذكر سميثسون-رايت مصير مطعم بريزو باعتباره أفضل مثال على تراجع مستوى التقبل هذا. في أبريل (نيسان)، أغلقت سلسلة المطاعم الإيطالية 46 فرعاً من أصل 143، وعزت السبب إلى ارتفاع كلف الطاقة والسلع الغذائية- لكن سميثسون-رايت يضيف أن نوعية الطعام العادية لعبت دوراً في ذلك أيضاً. "كان مستوى بريزو عادياً- لم يكن رائعاً ولا خلاقاً، لكن مع ارتفاع الأسعار، لا يعود العادي مقبولاً، هذا النوع من المطاعم، سواء كان تابعاً لسلسلة أو مطاعم مستقلة، سيجد أنه ما عاد له مكان. لا يمكنه أن يقدم فجأة طعاماً فاخراً، ولا يمكنه أن يفرض فجأة الأسعار التي يجب أن يطلبها لكي يستمر بالعمل".

إن الأسعار موضوع مؤلم في هذه المرحلة، وتسفر عن مواجهة عنيفة بين بعض مرتادي المطاعم وأصحابها، لكن البريطانيين يكرهون تاريخياً دفع ثمن أعلى لقاء طعامهم، إذ يخدعهم شعور كاذب بالأمان بسبب حرب الأسعار الطاحنة بين المتاجر الكبرى. أو شعور بأنه: لو يمكنني أن أدفع أقل من خمسة جنيهات استرلينية على وجبة جاهزة من ساينزبيري، لماذا تطلب المطاعم ثلاثة أو أربعة أو خمسة أضعاف هذا المبلغ لقاء وجبة رئيسة؟ لكن، كما يشير سيمثسون-رايت، "أشجع خطوة يمكن للمطعم أن يقدم عليها هي أن يطلب الأسعار التي عليه أن يطلبها دون خوف من نقص الرواد". ويضيف "من بعض النواحي، تعاقب المطاعم نفسها بعدم المطالبة بالأسعار التي عليها أن تطلبها وهي عالقة الآن في فخ تدني المستوى. وما يزيد الأمر سوءاً هو العائق النفسي لدى الناس حول ما يقبلون بدفعه لقاء الأشياء".

ماذا يعني ذلك إذاً بالنسبة إلى مستقبل قطاع الغذاء في لندن؟ لن ينتهي قطاع المطاعم ككل قريباً، كما يقول أوربوود، هذا القطاع مرن وقوي و"سوف يستمر" إلى أن يصبح الوضع أفضل. يضيف سميثسون-رايت أن الوضع الحالي يبدو كأنه نهاية المطاعم المتوسطة المستوى التي لن يتمكن كثير منها أن يستمر في هذه الفترة، لكن مولوك يحاول أن يقدم صورة أكثر تفاؤلاً. "إن مطاعم في لندن نشطة وتحصل فيها أمور جيدة جداً. والمذاق الشهي هو ما يسعى إليه الجميع".