تضيء أم جمال مصباحاً كهربائياً صغيراً، وتداول العامة على تسميته بـ"الليد" وذلك مع اقتراب موعد أذان المغرب، تضعه جانب مائدة إفطار تحلق حولها أطفالها الصغار، ترمق الضوء الأبيض الخارج منه وتعيد بذاكرتها أيام شهر رمضان في بيتها الذي أحاله الزلزال قرابة الشهرين أنقاضاً و"أثراً بعد عين"، وتتذكر معه فانوس رمضان بألوانه الزاهية وزخرفته التي تحوي فناً وإبداعاً.
صوت الأذان أيقظ خيالها العائد إلى ماض بعيد، تناولت وعائلتها بضع تمرات وماء وطبق حساء، وما تيسر من طعام أرسله الجوار، تروي رحلة عذاب امتدت أسابيع طويلة، قضت فيها لياليها بين الخيام ومراكز الإيواء حتى قطنت قبل أيام فقط في غرفة تكفل أحد ميسوري الحال بكلفة دفع إيجارها الشهري، ووسط هذه المعاناة تصف شهر رمضان بشهر الخير، إذ قالت "مع دخول الشهر الكريم بيوم واحد، اتصل بي أحد أقربائي ليبشرني بعثوره على غرفة تسترنا وتقينا برد الشتاء، أشعر بحنين ليالي رمضان في ذلك الزمن البعيد"، ترفع السيدة من إضاءة المصباح، ولا تملك سواه في وقت ليس لديها القدرة المالية للاشتراك بالمولد الكهربائي الخاص، تسمى شعبياً (أمبيرات) ذات الأسعار الباهظة.
الفانوس وسط النكبات
ليست أم جمال وحدها من لا تملك مصباحاً رمضانياً وإنما حالها حال آلاف السوريين الذين انهالت عليهم الكوارث الطبيعية والحروب، وتقطعت بهم سبل العيش وأصبح الفانوس رفاهية مطلقة.
في غضون ذلك، يستقبل السوريون الشهر الكريم وسط أوضاع اقتصادية في غاية الصعوبة، من دون أن يفوتهم الحرص على تطبيق عادات وتقاليد شعبية إلى جانب ممارسة شعائر الصوم، لكن الأزمات المعيشية من تضخم متزايد وغلاء الأسعار بدت أكثر قسوة في مدن سوريا المنكوبة جراء زلزال السادس من فبراير (شباط)، لتحل مدينة حلب بالتصنيف الأول في حجم الدمار بين مدن عدة مثل حماة واللاذقية وإدلب وطرطوس.
الأزمات المعيشية بدت أكثر قسوة في مدن سوريا المنكوبة جراء الزلزال (اندبندنت عربية)
ويسرد بائع السوس (مشروب رمضاني) محمد حمدوك اضطراره إلى ترك عمله في ورشة خياطة بعد أن أعلمه صاحب العمل عن إغلاق الورشة لأجل غير مسمى بسبب تضررها بالكارثة، "لم أجد عملاً سوى أن أكون بائع سوس في هذه الأوقات لأكسب رزقي ورزق عائلتي، حاولت أن أزين عربتي برونق جميل ومحبب بوضع فانوس الشهر الكريم لكني لم أجده بالأسواق، والفوانيس المنتشرة في الأسواق غالية الثمن".
"رمضان من دون أضواء ملونة"
أصوات ارتطام المطارق على الأواني النحاسية أخذت تقتحم آذان المارة من دون استئذان في سوق النحاسين بمدينة حلب القديمة والمتضررة من الزلزال. وفيه عاد عدد من الحرفيين للعمل على رغم تحديات الحرب والكارثة الأخيرة التي ألحقت بمحالهم القديمة وتركت أثراً بليغاً، "لكن الحياة لا بد أن تستمر" هكذا يروي لنا الحرفي، حسين نمرة، واقع صناعة المصابيح والفوانيس النحاسية، والتي كانت في يوم من الأيام تمد المحافظات السورية وخارج البلاد بأفخر القطع.
في المقابل يرى أن الحرفة التي توارثها عن أبيه وجده انخفض عدد زبائنها، "لحظت مصلحتنا تراجعاً كبيراً باعتبار أن الفوانيس باتت من الكماليات، فالناس اليوم تسعى إلى تأمين لقمة العيش فحسب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا مكان لـ"الكماليات"
وتوجهت "اندبندنت عربية" لزيارة أشهر الحرفيين وصانعي الفوانيس والأواني النحاسية، الحرفي عبدالرحمن نحاس، الذي أخبرنا عن فانوس قديم أخذ يقلبه بين يديه، وأنه صنع منذ أكثر من 75 عاماً وكانت توضع بداخله الشموع في مسائيات رمضان، "لقد عاش زمناً مديداً لكنني حافظت عليه على رغم كل المآسي المتعاقبة والقاسية، قيمة هذا الفانوس لا تقدر بثمن، يذكرني بزمن الآباء والأجداد".
لا ينكر الحرفي النحاس، الذي ارتبط اسم عائلته به لشهرتهم وإبداعهم بفن النحاس، تراجع المهنة ولا سيما صناعة الفوانيس التي اعتبرها كمالية، وبسبب الظروف والأوضاع المعيشية الصعبة التي أثقلت كاهل الناس الذين باتوا يلتفتون إلى أمور أكثر إلحاحاً "لقد كان تقليداً من الأساسات والعادات التي لا تفارق الناس، لكن غلاء مادة النحاس دفع إلى أن يهجرها الناس ويتجهون إلى شراء الهلال الخشبي الأقل كلفة، يبلغ ثمنه 30 ألفاً بينما سعر النحاس قد يتجاوز الـ100 ألف (ما يعادل 15 دولاراً) أي راتب موظف".
ويشرح الحرفي أن فانوس رمضان طرأت عليه بعض التغيرات مع مرور الزمن، لكنه لم يتغير كثيراً، "فقد بقي هيكله مصنوعاً من النحاس المفرغ بالأشكال الزخرفية ومحاطاً بالزجاج".
وتطور الفانوس من الزجاج الأبيض الشفاف إلى الملون بألوان كالأحمر والأخضر أو الأصفر، وكان لكل فانوس باب وقفل يفتح لتوضع داخله شمعة. وعرض فانوساً قديماً لم يطرأ عليه أي تطور تكنولوجي وقال "لم تعد الفوانيس تتمتع بهذا الشكل وإنما باتت تعمل بالكهرباء".
"هل هلالك يا رمضان" أغنية تتردد في المحال والبيوت على رغم المشهد المأسوي والسوداوي وأيام عاشها الناس في مدن منكوبة، ما زال الحداد يخيم على أهاليها بعد غياب أحبتهم وأقاربهم وأصحابهم نتيجة الزلزال المدمر. ومع كل مائدة إفطار تغص المقل بالدموع نتيجة تزاحم النكبات التي عاشوها، وليالي رمضان بلا فوانيس ملونة تبدل سواد أيامهم.