الفلسطينيون... وزعماؤهم

منذ 11 أشهر 132

في تاريخهم الحديث... لم تكن لديهم دولة حقيقية، ولا رئيس دولة حقيقي، ولكن دائماً لديهم قضية، ورجلاً أول.

كان الأول منذ بداية النكبة الحاج أمين الحسيني، الذي جمع بين الزعامات الثلاث، الدينية والاجتماعية والسياسية.

الجزء الأخير من حياته قضاه بعيداً عن الوطن، بعد أن طورد وسُجل في حينه حليفاً للخاسر الأكبر هتلر.

تلاه المحامي أحمد الشقيري، الذي عيّنه العرب رجلاً أول بمسمى رئيس منظمة التحرير، التي تشكلت بقرارٍ من جميع الزعماء العرب وداخل وعاء قومي كان الأعلى في حينه هو القمة العربية.

ومثلما جاء به العرب أقصوه، بعد أن حمّلوه بعض مسؤولية عن الإخفاق الأكبر في يونيو (حزيران) 1967، رغم أنه كان أضعف مسببات الهزيمة، فإنه الهدف الأسهل للتضحية به.

وفي فترة انتقالية تكاد لا تحسب ولا تُرى، سمّي نائبه السيد يحيى حمودة رجلاً أول تمهيداً لإخلاء الطريق أمام زعامة البندقية التي جسدتها حركة «فتح» التي أسمت ياسر عرفات «أبو عمّار» ناطقاً رسمياً باسمها وممثلها في خلافة الشقيري رئيساً لمنظمة التحرير.

هكذا سارت أمور الزعامة الفلسطينية بقدر كبير من السلاسة والتلقائية والمنطقية، ولكل رجل أول مواصفات لم تتوافر في غيره، فقبله الناس واعتبروه زعيمهم، وعارضه البعض دون أن تؤثر معارضتهم على مكانته، وتعامل الآخرين معه.

غير أن أمراً لافتاً كان يحدث كلما حلت مصيبة بالفلسطينيين.

وهو ظهور سؤال... من يصبح الرجل الأول بعد الذي سيغيب، ومع من يتحدث الآخرون بشأن فلسطين والفلسطينيين؟

في عهد عرفات طويل الأمد، والذي تشكلت زعامته من تجمع عدد من العناصر الفعالة، وُجد من رآه غير مناسب لموقع الرجل الأول، فظهر من داخل حركة «فتح» من عمل على إطاحته، ولكن الأمر بدا قليل الجدية والقدرة على الحسم؛ إذ كان الرجل بمواصفاته المميزة أقوى من منافسيه الداخليين، وأكثر قدرة على البقاء وعزل الخصوم باحتوائهم وتهميش فاعليتهم.

المحاولة الأكثر جدية لإقصائه، اشتركت فيها نظم مؤثرة، هي تلك التي اجتمعت فيها الجغرافيا الحاسمة في أمر الوجود الثوري الفلسطيني «سوريا» مع المال الفعّال «ليبيا». كان ذلك حين تكرس عرفات كأسطورة بفعل قيادته لأطول حرب عربية - إسرائيلية في لبنان عام 1982. وما إن خرج من ميناء بيروت بصورة نصر أقوى من الهزيمة، حتى بدأ الإعداد لإقصائه؛ إذ تم تنظيم انشقاق كبير داخل «فتح»، ليمتد إلى باقي قوى الثورة المنضوية تحت لواء منظمة التحرير، وحين اضطر عرفات إلى تجديد شرعيته عبر المجلس الوطني، لم يجد من الدول التي اعتادت استضافة المجلس من يقبل بعقده على أرضها؛ ذلك بفعل الانشقاق الذي جعل مصير منظمة التحرير وعرفات غامضاً، تحت سؤال تداوله الكون كله... من الذي سيفوز، عرفات... أم المنشقون عنه وعليه؟

الملك الداهية الحسين بن طلال، قرأ المستقبل ببصيرته الثاقبة، ومحا من ذاكرته خصومة يوليو (أيلول) 1970، ورحّب بانعقاد المجلس في عاصمة ملكه عمّان، وسجل التاريخ أن الحسين وفّر انطلاقة جديدة لمنظمة التحرير ولزعامة عرفات؛ ما عزل الانشقاق والمنشقين إلى أن تلاشوا.

مرة واحدة سُمي إلى جانب عرفات نائب رئيس هو المحامي العنيد والمعارض الشرس إبراهيم بكر، ومع انتهاء الوجود العسكري الثوري في الأردن إثر أحداث أيلول 1970، لم يعد لرئيس المنظمة نائب، بل رجل ثانٍ، عيّنه الرأي العام والكفاءة الشخصية هو صلاح خلف «أبو إياد»، كان ثانياً دون تسمية رسمية، وحتى دون تراتبية تنظيمية.

وفي حالة تشبه الجائحة، اغتيل أبو إياد وبعده أبو جهاد وتوفي خالد الحسن أبو السعيد، وهم الأسماء التي كانت تتداول كخلفاء محتملين لعرفات، ليبقى من التاريخيين اثنان، فاروق القدومي الذي لحظة كتابة هذا النص لا يزال على قيد الحياة، والذي استنكف عن الزعامة الأولى بفعل معارضته «أوسلو»، ومحمود عباس الذي جاءت به رجلاً أول ولا يزال.

في عهد عباس طويل الأمد، أطول عهد لرئاسة السلطة والمنظمة و«فتح» «بعد أوسلو» انتهت تلقائية وسلاسة الوراثة ليبدأ عهد جديد يميزه غموض لا يُرى فيه من سيأتي بعده، وفي غموض كهذا ظهر ما أصفه بـ«هوس الزعامة»...

في عهد عرفات وقع الانشقاق وتغلب عليه، وفي عهد عباس وقع الانقسام، ومنذ حدوثه وظهوره إلى العلن، بعد تحضيرات حثيثة من قِبل حركة «حماس» دخلت الحالة الفلسطينية كلها في نفق لا مخرج منه، ولأكن متفائلاً وأقول - حتى الآن - استأثرت «حماس» بالسيطرة على غزة، ومنافسة «فتح» على النفوذ في الضفة.

أفرز هذا الوضع حالة مزدوجة لعباس؛ فهو الأقوى على رأس «فتح» والمنظمة والسلطة، وهو الأضعف في معادلة الصراع مع «حماس» وإسرائيل؛ ولأن الرجل يقترب من إكمال العقد التاسع من عمره، فقد أغرى ذلك كثيرين ليتطلعوا إلى خلافته، كما دفع دولاً عديدة إلى طرح سؤال مَن الخليفة؟ وهنا انفتح باب واسع لترشيحات أسماء دون تدقيق في المؤهلات والإمكانيات، والأهم من ذلك دون معرفة كيف يوضع على رأس الحالة الأعقد على مستوى الكون كله رجلٌ ينهي الجدل حول الخلافة، ولو لمجرد أن يسمى رئيساً...

الأسماء المتداولة بعضها يتخيل لنفسه رئاسة محتملة بفعل معادلة خارجية، فمن يتفق عليه الإقليم والدول النافذة في الشأن الفلسطيني، بما في ذلك إسرائيل فالطريق إلى رئاسته كما يظن صارت ممهدة والمسألة تحتاج إلى بعض إخراج!

وبعض آخر يراهن على انقلاب في النظام الدولي يحجّم دور أميركا وإسرائيل، ويفرض دوراً مقرراً للأقطاب الجدد روسيا والصين والهند وإيران وغيرهم، كأن هؤلاء الجدد لا ينامون الليل قبل أن يتفقوا على رئيس للفلسطينيين!

كثير من الحالمين ينتظرون أمراً كهذا ويرون أنفسهم الأقرب إلى الخلافة، وهنا ترتفع أسهم الإسلام السياسي في الرهانات...

حالة يمكن وصفها «بالهوس»... فدعاة الاستقلال يراهنون على معادلة خارجية لا صلة لشعبهم بها، والمهووسون بالزعامة ترتعد فرائصهم عند ذكر صندوق الاقتراع؛ لأن يقينهم بالمعادلة الخارجية وجذرها شعور عميق بأن القرار الحاسم هناك، يجعلهم في حالة انتظار دائم لقرار النافذين من خارج الحالة الوطنية، مع أن النافذين الخارجيين سواء من أقطاب النظام الدولي القديم الذي لا يزال يعمل، أو الجديد الذي لم يتكرس بعد، لا يريدون رئيساً للفلسطينيين، بل مندوباً لهم تحت مسمى رئيس! ذلك في الزمن الذي شعاره «حسبنا الله ونعم الوكيل» مشفوعة بلا حول ولا قوة إلا بالله.